الآغا خان : علينا تجنب عالم فضفاض يشرذمه عدد كبير من الدويلات اللامستقرة

خطاب سموالآغا خان في حفل منح شهادة الدكتوراه الفخرية له من قبل جامعة أوتاوا
في كندا 13/01/2012
بسم الله الرحمن الرحيم
المستشار لابيل ،
الرئيس روك ،
السادة المحترمون ، الضيوف الأفاضل
هناك مواضيع عديدة ذات اهتمام مشترك يمكن أن أتحدث عنها . وقد اخترت موضوعاً واحداً فحسب هو في نظري هام . وأنا مدرك بأنه في صدارة أولياتكم أيضاً . وهنا أشير إلى ميدان الحكم والسياسة العامة ، وبالتحديد إلى صعوبة إنشاء أنظمة دستورية قابلة للتطبيق ، بشكل خاص، في البلدان ذات الخبرة الأقل في الحكم الديمقراطي.
وكما تعلمون إن اهتماماتي في السنوات الخمسين الماضية ، كإمام للجماعات الإسماعيلية ، كانت مرتكزة بشكل أساسي على افريقية وجنوب آسية وأسية الصغرى والشرق الأوسط – وذلك لتحسين نوعية حياة الناس الذين يعيشون هناك . وبقدر ما أفكر بهذه المسألة أجد نفسي مقتنعاً بأن أحد العوائق الحرجة للتطور هو الأسلوب الذي تتبعه الحكومات في آدائها .
إن لجامعة أوتاوا تقليداً عريقاً للمشاركة عالمياً في العمل الجاد للبحث الفكري . وقد نوه الحاكم العام لأوتاوا حديثاً إلى هذه العملية بوصفها ( دبلوماسية المعرفة ) ؛ وكما يبدو لي أن مسائل الحكم الدستوري في العالم النامي تستحق بشكل خاص موضعاً متقدماً على جدول الأعمال هذا .
إن ما يسمى ( بالربيع العربي ) قد جلب لنا معه اهتماماً خاصاً لهذا التحدي – مبيناً أنه من الأسهل أن تحشد الناس بشكل معارضة لحكومة معينة على أن تصوغ اتفاقاً حول إجراءات حكومية جديدة . لكن، في الوقت الذي بات فيه هذا النموذج أكثر جلاءً وإثارة مؤخراً ، نجده حقيقة منذ عهد طويل وطويل جداً .
عبر حياتي , وجدت أن المناسبتين اللتين ساهمتا في ترك أعظم الأثر على هذه القضية هما سقوط الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية ، وبعد ذلك تفكك الاتحاد السوفيتي وإمبراطوريته الأوربية الشرقية منذ عقدين . إن العملية تستمر اليوم ، حيث تسعى الدول النامية لإعادة النظر في البنى الحكومية التي تنضوي تحتها بشكل سلمي حيناً وبشكل عنيف حيناً آخر .
نظراً لبعض الحالات، أتوجه بتفكيري هنا إلى دستور كينيا الحديث جداً ، حيث وزِّعت السلطة استجابة، وبدون شك، لضغوط عرقية واقتصادية ودينية وقى متمحورة أخرى . إن من أهم مخاطر إقصاء قوى المركز هو أنها يمكن أن تضع المزيد من سلطة صياغة القرارات في أيدي جماعات لم تحظ بالفرص الكافية من التعليم والخبرة القيادية والقاصرة في التعامل الصريح مع القضايا الوطنية والعالمية .
ربما لهذا السبب يكون التوجّه ، في بعض الحالات، إلى دعم السلطة الحاكمة ، كما في أفغانستان ، عندما يكون هدفها القضاء على العجز والتقصير ، مع مساندتها في التغلب على التوجها المناطقية المتشظية.
يمكن أن يُنظر إلى تاريخ الدساتير كإيقاع متبادل بين قطبين اثنين هما المركزية والانتشار ، مع تركيزات جديدة للسلطة غالباً ما تكون لتهويل الغواية التي تقود إلى ارتكاب الآثام. في حين أن التشتيت الجديد للسلطة غالباً ما يترافق مع الكود والشلل , بل وحتى افساح المجال للمزيد من الفساد. والترتيبات التي تعد لتوازن السلطة – بالاعتماد مثلاً على الصيغة الفيدرالية ، لن تكون إلا مراوغة .
إن المخرج الحاسم لهذا الأمر هو الإجراءات الدستورية التي تحترم التقاليد الموروثة وتضمن العدل للأقليات ، وتستجيب إلى المتطلبات المدنية والريفية وتتعهد بتأمين الفرصة العادلة لحياة أفضل . فالتوفيق بين ما هو عالمي ومحلي ، مدني وريفي ، إقليمي ووطني هو تحدٍّ هائل ، وهو التحدي الذي يستوجب أفضل ما لدينا من طاقات فكرية مع المتابعة في اللمسات التطويرية عبر الزمان .
هناك مسألة ثانية متعلقة بتجربة الديمقراطيات غير الناضجة ، وغالباً الفاشلة . فقد رأينا في معظم دول العالم المتطور بروز بنيتين سياسيتين كحزبين متناوئين مع مرور الزمن ، حيث يشكل أحدهما الحكومة والآخر يؤلف المعارضة . يمكن لهذا الإجراء أن يعزز مسؤولية كل طرف أمام تعهداته، بل حتى أنه يضمن استقراراً معيناً . لكني مضطر لأن أقول بأن الشك يتزايد معي حول انبثاق مثل هذه البنى في كثير من البلدان النامية . لأنه ، في خلاف ذلك، ينتابني الشك في أن التعددية المتواصلة للأحزاب ذات الاختلاف الواسع ستعني أن شكلاً ما لحكومة ائتلافية سيصبح مبدأً مألوفاً . هذا الأمر بالطبع سيكون بشكل خاص الحالة السائدة في المجتمعات ذات التعددية الثقافية أو الدينية ، أو التي تناضل لاحتضان القوى السياسية والدينية والدنيوية .
إلا أن الصعوبة يمكن أن تبرز عندما تكون الائتلافات الحزبية التعددية غير منضبطة ومتساوقة جوهرياً مع أجنداتها المختلفة بحيث غالباً ما تكون غير مستقرة . في مثل هذه الحالات يمكن التهديد بخطر الرِدّة التي يمكن أن تكون عاملاً مخلاً بالاستقرار إلى حد كبير . فتصبح المحاسبة شائكة والشفافية مُحبطة . مع ذلك ، إن الحكم الائتلافي أخذ يفرض وجوده الآن كصيغة مألوفة للحكومة في كثير من البلدان الآسيوية والإفريقية والشرق أوسطية .
كلما تفاقم عدد الأحزاب ، تفاقمت معه الخطورة من أن تكون هذه الأحزاب قائمة على شخصيات ، أو على كيانات ضيقة الأفق ومحدودة الاهتمامات بدلاً من الطرح الطموح الواسع النطاق والمتميز عالمياً .
لا يوجد بالتأكيد صيغة عالمية صريحة وواضحة المعالم لتطبيقها في مثل هذه الحالات . كما أنه لا يجوز أن نفترض ببساطة أن ما طُبق بنجاح في بعض أجزاء العالم الغربي، على سبيل المثال، سيلقى أيضاً نفس النجاح لو طُبق بنفس الأسلوب وبنفس الظروف في الأماكن الأقل تطوراً فاختلاف الأماكن واختلاف التوايخ يتطلب تعاطياً مختلفاً .
إن التساؤلات التي يطرحها الحكم الائتلافي ليست سهلة سواء كانت في العالم النامي أم في العالم المتطور . كا هي القواعد التي ينبغي أن تجتمع عليها الأحزاب والكيانات الأخرى ؟ كيف نحدد أفضل السُبل التي يمكن أن نتبعها لإيجاد اللُّحمة المناسبة بينهما – كالعهود المشتركة التي تقطعها الأطراف فيما بينها بكل وضوح، والمتعلقة بالاهتمامات الوطنية وروح التعددية التي ترقى بالتآلف بين وجهات النظر المتنوعة ؟
دعوني أؤكد بأني لا أعارض مفهوم الحكومة الائتلافية . فهي ، في الواقع، يمكن أن تكون استجابة حتمية للتعددية الحقيقية لبلدان كثيرة أعمل فيها . لكن المستوى العالي لعدم الاستقرار السياسي والفشل في أنحاء العالم يكشف الحاجة إلى فكر إبداعي حديث منوط بالصيغة اللازمة للديمقراطية . وهنا يبرز السؤال : ما الخيارات الدستورية ، وما هي أفضل الممارسات التي ستوفر للحكومة الائتلافية أفضل فرصة للاستقرار والأداء الثابت الرفيع . أما البديل لذلك فهو عالم فضفاض يشرذمه عدد كبير من الدويلات اللامستقرة . وهذا سيناريو يجب علينا تجنبه .
أقول مجدداً ، إن النقاش الذي يدور حول الأنظمة السياسية المقارنة هو مجرد واحد من النقاشات الكثيرة التي ينبغي على الجامعات العظيمة الشأن في كل أنحاء العالم أن تكون ذات مشاركة فعّالة فيها . فجامعتنا ، جامعة الآغاخان ، هي الآن بصدد الإعداد لكلية جديدة – كلية الدراسات العليا في إدارة الحكم والسياسة العامة والمجتمع المدني ، وذلك للمساعدة في التعاطي مع هذه القضايا . وبالتأكيد، هذا هو النقاش الذي تستطيع جامعة أوتاوا أن ستاهم فيه بمشاركة خاصة – كالعمل بالتعهد الذي توجهتم بع للبحث في موضوع " كندا والعالم " – وتركيزكم على الالتزام الفكري العالمي ، الذي يشمل 140 اتفاقية ثنائية بين الجامعات وكذلك إصراركم على دعم الديموقراطية وتأكيدكم عليّ إيجاد مركز حديث رائد للبحث في مزاولة الحكم والسياسة العامة .
إني لأعلم أيضاً أن الدور العالمي الفعّال لهذه الجامعة تعززه المكانة الرفيعة التي تحتلها كندا كشريك عالمي مرموق . فمن خلال خبرتي أجد أن مكانة الدولة في عالمنا المعاصر لم يعد متميزاً بما تحققه من انجازات لنفسها بل بما تستطيع أن تقدمه للآخرين . في هذا السياق أصبحت كندا حقاً قوة عالمية ذات شأن عظيم
شكراً