الانفجار الكبير قيد الاختبار
موسى ديب الخوري
بعد بضعة أجزاء قليلة من الثانية الأولى بعد الانفجار الكبير، كانت درجة حرارة الكون تصل إلى عدة آلاف المليارات من الدرجات، وكانت اللبنات الأولية للمادة لا تزال غير متصلة. هذا أقله ما كان يعتقده الفيزيائيون منذ نحو ثلاثين سنة. لكن النتائج الأولية التي تم الحصول عليها مع مسرع الجسيمات RHIC، في بروكهافن قرب نيويورك، تثبت العكس. فاللبنات الأولية كانت قد بدأت التفاعلات، مع أن الكون البدئي كان لا يزال شبيهاً بسائل لا يبدي أية لزوجة أو حالات تفاعل تقريباً.
كان الفيزيائيون يحلمون بمثل هذه التجربة منذ ثلاثين سنة. وبفضل المسرعات العملاقة للجسيمات استطاعوا أخيراً رصد المادة كما كانت تبدو بعد بضع لحظات من الانفجار الكوني الكبير. إنه نجاح يقلب الكثير من التصورات حول بدايات الكون!
ماذا كان يشبه الكون بعد بضعة أجزاء من المليون من الانفجار الكبير؟ لقد أدى الانفجار الأصلي إلى توسع الكون، وهذا هو السبب الذي يعطي لعلماء الكونيات الرجوع بالزمن ورؤية هذه التخوم السحيقة. لكن ليس ثمة مرصد يمكن أن يرينا مثل هذه الأبعاد السحيقة، ليجيب على تساؤلاتنا. والحل الوحيد كما يقدر الفيزيائيون هو أن يعيدوا على الأرض خلق الظروف التي كانت سائدة في الكون منذ نحو 14 مليار سنة. ويقدر فريق من العلماء الدوليين يعمل حول مسرع الجسيمات RHIC في بروكهافن، قرب نيويورك، أنه توصل إلى خلق هذه الظروف متوجاً عملاً مكثفاً من الأبحاث كان قد بدأ منذ نحو ثلاثين سنة. والنتيجة التي يخلص إليها هؤلاء هي أن الفيزيائيين الذين كانوا يعتقدون حتى الآن إن الكون كان في بداياته غازياً مخطئون! فهذا الكون البدئي كان يشبه بالأحرى سائلاً ذا خواص مميزة، طالما أن لزوجته كانت شبه معدومة.
منذ بداية القرن العشرين، كان من المعروف أن الذرة تتألف من إلكترونات ومن نواة، وأن النواة تتألف من نيوكليونات هي البروتونات والنوترونات. وفي عام 1963 افترض الفيزيائي الأمريكي جيل ـ مان Murray Gell-Mann وجود الكواركات، اللبنات الأساسية للنيوكليونات. وتترابط الكواركات بواسطة القوة الشديدة، وهي إحدى أربع قوى أساسية تحكم الكون. وتحمل هذه القوة الشديدة جسيمات أولية أخرى تسمى الغليونات. وهي تستحق فعلاً تسميتها بالقوية طالما أن الكواركات أو الغليونات لا توجد في حالة حرة: فهذه القوة من الشدة بحيث تظل هذه الجسيمات مجتمعة مثنى أو ثلاث في جسيمات أو كينونات مركبة.
"حساء" من المادة
غير أن للتفاعل الشديد أيضاً ميزة منافية للحدس والتوقع بالنسبة للفيزيائيين: فعلى عكس القوى الأخرى، مثل التفاعل الكهرطيسي على سبيل المثال، فإنها تضعف مع تناقص المسافة بين الجسيمات. وقد أثبتت هذه الخاصية في بداية السبعينات، ونال مكتشفوها في عام 2004 جائزة نوبل (الأمريكيون غروس وويلزك وبوليتزرDavid Gross, Frank Wilczek, David Politzer). ويمكن الاستنتاج من هذه الخاصية أنه إذا كانت المسافة بين الكواركات والغليونات قصيرة جداً فإن هذه الأخيرة تكون حرة تماماً. وتبين الحسابات أن الشروط الضرورية لذلك هي درجة حرارة تصل إلى آلاف مليارات الدرجات وكثافة طاقة تكون أعلى بعشر مرات من كثافة طاقة المادة العادية. وهذا يوافق تماماً الشروط التي كانت سائدة في الكون بعد بضعة أجزاء من مليون من الثانية بعد الانفجار الكبير! والنتيجة أن الكواركات في تلك اللحظة كانت حرة، وكانت تشكل حساء من المادة يسمى أيضاً "بلازما الكواركات والغليونات". وبعد توسع وابتراد كافيين للكون إنما تجمعت الكواركات لتشكل الجسيمات التي نعرفها اليوم.
بعد فترة طويلة من نشر العلماء الثلاثة غروس وويلزك وبوليتزر نتائج أعمالهم، استطاع العالمان الإيطالي جيان كارلو ويك Gian Carlo Wick والصيني تسونغ داو لي Tsung-Dao Lee الوسيلة لإنتاج هذه الظروف الجهنمية للكون البدئي: وهي ترتكز على تصادم إيونات مؤلفة من عدة مئات من النكليونات، مثل الذهب أو الرصاص، بسرعات قريبة من سرعة الضوء. إن الانفجار الذي سينتج عن ذلك سوف يحرر طاقة هائلة إلى حد أن النكليونات ستنصهر تاركة للكواركات والغليونات إمكانية الحركة الحرة.
إن مدة حياة هذه البلازما قصيرة جداً: جزء من مليون من مليار من مليار من الثانية على أبعد تقدير. وهذا يعني أن هذه البلازما لا تكون مستقرة لفترة طويلة كافية لكي تدرس بشكل مباشر. ومع ابتراد البلازما فإن تولد جسيمات مع ذلك وفق قانون أينشتين الشهير الذي يضع التكافؤ بين الطاقة والكتلة. إن مواصفات وسمات هذه الجسيمات هي التي يجب دراستها لأنها تحفظ في ذاكرتها "آثار" تشكل البلازما.
السرعة والانطلاق
في بداية التسعينات أطلقت المنظمة الأوروبية للبحث النووي، CERN، قرب جنيف، برنامجاً واسعاً من أجل رصد أو رؤية بلازما الكواركات والغليونات. وسمحت سبع تجارب بجمع معلومات مصدرها الـ SPS، وهو مسرع على امتداد عدة كيلومترات يحرر طاقة مقدارها 17 جيغا إلكرتونفولط في الموضع الذي تتصادم فيه نوى الرصاص. إن كلا من هاتين التجربتين، النوعيتين إن على المستوى الأداتي والبنائي أو على المستوى الفيزيائي الذي تسمح بدراسته، كان متوقعاً لها أن تكشف عن سبعة آثار لتشكل البلازما من الكواركات والغليونات التي تنبأ بها النظريون.
في 10 شباط من عام 2000 نشر لوشيانو مياني Luciano Maiani، وكان في حينه مديراً لمركز البحث النووي الأوروبي CERN، مقالاً يعلن فيه أنه تم تخليق بلازما الكواركات والغليونات، وأن البراهين على وجودها أصبحت حاسمة. وبينت هذه البراهين أن الكواركات كانت بدلاً من أن تكون منطوية في جسيمات أكثر تعقيداً متحررة وتنتقل بحرية وفقاً لتنبؤات النظريين. كانت القياسات تشير بوضوح إلى وجود حالة من المادة غير معتادة أو مألوفة، واتفق مجتمع الفيزيائيين على هذه النقطة. لكن الفيزيائيين انقسموا حول ما إذا كان قد تم فعلاً تخليق بلازما مؤلفة كما يفترض فقط من الكواركات والغليونات. بالمقابل، فإنه لم يكن من المستبعد أن تكون الظاهرات الملاحظة في الـ CERN عبارة عن "فجوات" في القياس، والتي يمكن أن تُفسّر بواسطة نماذج لا تتطلب تشكل بلازما من الكواركات والغليونات. وبعبارة أخرى، فإن البراهين الحاسمة التي أطلقها الـ CERN لم تكن حاسمة تماماً. وقد رأى بعضهم في هذا التسرع من إدارة الـ CERN رغبتهم بربط اكتشاف البلازما بمختبرهم، لأن هذا المختبر كان قد خصص وأنفق مبالغ طائلة على هذه الغاية، بل وأيضاً وبشكل خاص لأن المسرع RHIC كان لا بد أن يدخل في العمل بعد بضعة أشهر فقط، في ربيع عام 2000.
ولما كانت المستويات التقنية رفيعة جداً في المسرع المصادم الأمريكي ويعد بالتالي بنتائج جيدة، فقد كان الفيزيائيون الذين يحضرون التجارب فيه مقتنعين حتى قبل وضعه في الخدمة أنهم على موعد مع رؤية البلازم فيه. ويتألف هذا المسرع المصادم RHIC من حلقتين محيط كل واحدة منهما 3.8 كلم حيث تمر فيه حزمتان (نوى الذهب أو بروتونات). وتتلاقى هذه الأخيرة في أربعة مواضع. وفي كل من هذه النقاط أقيم كاشف قادر على تحديد هوية نحو 10000 جسيم من طبيعة مختلفة يتولدون إثر التصادم. ويقوم كل من الكواشف الأربعة بالقياسات نفسها مما يسمح بالتأكد من قابليتها للنسخ. غير أن الميزة الرئيسية للـ RHIC بالنسبة لتجربة الـ CERN هي قدرته. فهو يستطيع الوصول إلى طاقة 200 جيغا إلكترونفولط، وهي أعلى بكثير من التي يقدر النظريون أنها ضرورية لتحرير الجسيمات الأولية.
يتبع.....