مقالة منشورة في صحيفة البعث في سورية تحت هذا الرابط
http://www.albaath.news.sy/user/?id=14&a=728....................................................
ماذا بقي من أطروحات «النظام العالمي الجديد»؟
كثر الحديث في بداية التسعينيات عما سمي حينها النظام الجديد، وردده بعض العرب، ربما أكثر من غيرهم، توهماً بأنه سيكون أفضل من النظام العالمي الذي تكون في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي عانى العرب في ظله ما عانوه، من نهب خيرات الأمة العربية واغتصاب بعض أجزاء الأرض العربية وزرع الكيان الصهيوني الذي عمل على العدوان تلو العدوان بدءاً من النكبة 1948.
وطبقاً لرأي الكثير من الباحثين فإن أول من استخدم اصطلاح النظام العالمي الجديد هو الرئيس الأخير للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشيوف في اطار الحديث عن سياسته الخاصة بالتقارب مع الغرب ومع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، وقصد بذلك انه النظام الذي سيعقب الحرب الباردة وانتهاء خطر المواجهة بين الشرق والغرب والذي يقوم على مبادىء جديدة تتضمن نزع السلاح واحداث نوع من توازن المصالح بدلاً من توازن القوى انطلاقاً من التسليم بعدم قدرة المعسكرين الأمريكي والسوفييتي على فرض ارادته على الآخر ونزع الصفة الايديولوجية عن العلاقات الدولية مع الحرص على العمل من أجل تخطي الحواجز والصراعات تحقيقاً للمصالح البشرية جمعاء، وقد ردده الرئيس الأمريكي بوش الأب في بداية أزمة الخليج الثانية التي بدأت في 2 آب 1990، وأعلن في 5 آذار 1991 في خطابه أمام الكونغرس ان حرب الخليج كانت المحك الأول لنظام عالمي جديد، ثم عاد وكرر بالكلية الحربية بقاعدة ماكسويل: «ان أركان النظام الدولي الجديد هي تسوية المنازعات بالوسائل السلمية، والتضامن الدولي في مواجهة العدوان، والعمل من أجل تخفيض مخزونات الأسلحة واخضاعها للسيطرة ومعاملة الشعوب معاملة عادلة».
ولابد من الاشارة الى ان النظام العالمي يضم الى جانب الدول قوى فاعلة أخرى مثل الشركات دولية النشاط والمنظمات الدولية وغير الحكومية والحركات أو الظواهر العابرة للقارات وكل ما هو خارج عن سيطرة الدولة وله تأثير خارج حدودها.
وقد قيل حينها إن ثمة عوامل تفرض التحول الى هذا النظام الدولي الجديد!!، وأهمهما:
أولاً- الثورة الصناعية الثالثة وأثرها على النظام الدولي: ان الثورة الصناعية الالكترونية من أهم العوامل التي أثرت، وتؤثر، في العلاقات والمتغيرات الدولية، ولهذه الثورة سمات أربع هي:
1- توصف بأنها ساعدت الى حد بعيد في اختصار المدى الزمني الذي كان يفصل بين كل ثورة وأخرى، فقد أخذ هذا المدى يضيق باستمرار بحيث يمكن القول بأنه اذا كان العالم قد انتظر أكثر من 1800 عام حتى تبدأ الثورة الصناعية الأولى، وانه لم يدخل في عصر الثورة الصناعية الثانية إلا بعد مئة عام من ذلك التاريخ، واحتاج فقط الى ربع قرن ليدخل في الثورة الصناعية الثالثة، إلا انه أصبح اليوم وربما في أقل من عشر سنوات على مشارف الثورة الصناعية الرابعة.
2- ان هذه الثورة على خلاف الثورات السابقة «التي اعتمدت على الصناعات الثقيلة وعلى صناعة الآلات والسيارات» تعتمد على العقل البشري وعلى حصيلة الخبرة والمعرفة التقنية.
3- لأن العقل البشري هو الذي أصبح ينظر اليه باعتباره قوام الثورة التكنولوجية الراهنة، فقد بات من الضروري الاستثمار بأمور التعليم وتطوير المهارات البشرية.
4- السمة الرابعة تتمثل في الافادة من الطاقات البديلة مثل الطاقة الشمسية واقتحام الهندسة الوراثية وتكنولوجيا انتاج الطعام الرخيص ومجال احلال الآلة محل الانسان في بعض المجالات.
ثانياً- التحولات في الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان أوروبا الشرقية: في أعقاب انقلاب آب 1991 الفاشل ضد غورباتشيوف دخل الاتحاد السوفييتي كدولة وككيان مرحلة التفكك والانهيار، وأثر ذلك تأثيراً بالغاً على صعيد التوازن الدولي والاقليمي، وبرزت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، ثم أخذت على عاتقها مهمة اعادة صياغة النظام الدولي بالشكل الذي يضمن مصالحها في المقام الأول.
وقد انعكست تلك التحولات على العرب وبرز ذلك فيما يلي:
1- ضيق هامش المناورة أمام الدول العربية في علاقاتها الدولية وخاصة المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي، وفي بحثها عن مصدر مناسب للسلاح والمعونات الاقتصادية والتكنولوجية.
2- تدمير العراق وامكاناته الاقتصادية والعسكرية والعلمية.
3- الهجرة اليهودية السوفييتية الى فلسطين المحتلة، حيث بلغ عدد المهاجرين اليهود عام 1990 «200000»، وقد وصل الى أكثر من مليون، وهذه الهجرة الكثيفة مترافقة مع المساعدات الأمريكية الضخمة 12 مليار دولار على شكل ضمانات قروض.
4- الآثار السلبية المترتبة على تقلص المساعدات المالية والتكنولوجية والعلمية التي كان يقدمها الاتحاد السوفييتي، والمساعدات الأوروبية التي بدأت تتجه الى أوروبا الشرقية.
ثالثاً- الاتجاه نحو اقامة التكتلات الاقتصادية الكبرى: ومن أبرز هذه التكتلات مشروع أوروبا 1992 وما يرتبط به من تطورات على صعيد تحقيق الوحدة الاقتصادية والسياسية بين الدول الأوروبية.
رابعاً- تفاقم الأزمات بين الشمال والجنوب وازدياد الفجوة الاقتصادية.
خامساً- زيادة حدة المشكلات ذات الطابع العالمي كالارهاب والمخدرات.
الأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد
كان الزعم بعصر الأمم المتحدة حتى تقوم بدور أكثر فاعلية في تحقيق الأمن الجماعي والحفاظ على السلام العالمي وتسوية المنازعات بالطرق السلمية، أحد الشعارات الأساسية التي استخدمت لتسويق النظام الدولي الجديد.
وقد كثر الحديث يومها عن دور مجلس الأمن في أزمة الخليج، بتجاهل كونه أصبح يدار من الولايات المتحدة، حيث أصدر مجموعة من القرارات السريعة والمتتالية التي زعم انها تمثل اطار الشرعية الدولية للعمل السياسي والعسكري ضد العراق، وبعد انتهاء أزمة الخليج بدأ يتكشف زيف تلك المقولات، فالولايات المتحدة أصبحت القوة الرئيسية المحركة للمنظمة الدولية، ولذلك راحت تطوع دورها لحساب المصالح الأمريكية بصفة خاصة والمصالح الغربية بصفة عامة، وأصبحت القرارات الدولية تكال بمكيالين حسب الرغبة الأمريكية، وأصبح هناك نوع من التماهي بين الشرعية الدولية ممثلة في الهيئات والمؤسسات الدولية في اطار الأمم المتحدة وبين الارادة الأمريكية التي تهيمن هيمنة كاملة على هذه الهيئات والمؤسسات، وقد برز ذلك واضحاً في القرارات التي صدرت عن الهيئات وباسم الشرعية الدولية خلال وبعد حرب الخليج وخاصة ما يتصل باستمرار فرض الحصار على العراق والتدخل في شؤونه الداخلية، وتأكد ان النظام الدولي الجديد بملامحه هذه ليس نظاماً قائماً على توازن المصالح ولا أولوية القضايا الانسانية أو الوفاق والسلام والعدل الدوليين، والتي كانت العناوين التي جرت تحتها التحولات نحو هذا النظام، بل كان نظاماً قائماً على الاخضاع والسيطرة للقوى المخالفة أو الرافضة للخضوع للسيد الأمريكي، ومن بعض قضايا النظام الدولي الجديد واشكالاته التي ظهرت تباعاً:
1- ظاهرة عدم الاستقرار: يعتبر الاستقرار السياسي من العناصر الأساسية في مقولات النظام الدولي الجديد، وعادة ما يقصد به غياب الصراعات والتوترات الحادة عن الساحة الدولية، وهو يقوم على أساس تسوية النزاعات بالطرق السلمية ونبذ استخدام العنف واحترام القانون الدولي وتحقيق التوازن في العلاقات الدولية، وعلى الرغم من التوصل الى تسوية بعض المشكلات الاقليمية القائمة وتهدئة بعضها، إلا ان حقبة مابعد الحرب الباردة وماسمي النظام الدولي الجديد أفرزت عدداً كبيراً من المشكلات بسبب تنامي نزعة التسلط والهيمنة الأمريكية، والتي ماتزال دون حل، وتردت الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في دول الجنوب من ناحية، واتساع الفجوة بين الشمال والجنوب من ناحية أخرى.
2- ضبط التسلح في دول الجنوب والتناقض بين المبادىء والممارسات وافتقاد وحدة المعيار أو الكيل بمكيالين.
3- المزيد من التهميش لبلدان الجنوب.
4- تسويق الفكر النيوليبرالي وماترتب على ذلك من اضمحلال دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتهديد الدولة القومية ومبدأ السيادة الوطنية، وما تبع ذلك من انعكاسات سلبية لحقت بالشرائح الأوسع من شعوب العالم الثالث خاصة.
ان التغيرات التي أصابت بنية النظام العالمي الجديد لجهة انتهاء الاستقطاب الثنائي ونمط التشكيل الاستراتيجي لتوزيع القوى السابق على النطاق الدولي، أثرت في العلاقة الأمريكية الاسرائيلية، ففيما رأى البعض ان هذه العلاقة لن تتغير وستظل، بل وستكبر وستستمر حاجة أمريكا لاسرائيل ودورها الوظيفي كأداة حرب وعدوان وضغط جديد على المنطقة العربية، طالما حاجة أمريكا الى نفط المنطقة، وان التغيرات ستقتصر على الجوانب التكتيكية وليست على الجوانب الاستراتيجية، رأى البعض الآخر ان هذه العلاقة لم يعد بحاجة لها وان التغيير يحتاج الى بعض الوقت، وسيتوسع الخلاف شيئاً فشيئاً خاصة حول أسلوب ادارة التسوية وقضايا التسلح والملف النووي الاسرائيلي والمساعدات الاقتصادية وتجارة الأسلحة وتدخل اللوبي الأمريكي في صناعة القرار الأمريكي المتعلق بالقضية الفلسطينية.
لكن الرهان على حدوث تغيير حقيقي في العلاقات الأمريكية الاسرائيلية سرعان ما سقط، بعدما انتقلت هذه العلاقات الى مستويات أعلى من التنسيق والارتباط.
لقد وقف الاتحاد السوفييتي السابق في وجه المخططات الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى تفككه، أما الآن وقد ورثته روسيا وبالرغم من المشاكل التي تواجهها فهي التي تستطيع ان تقف وتعود لتأخذ دورها الطبيعي الذي خسرته الفترة السابقة، وها هي ترد بقوة على مشروع الدرع الصاروخي الذي سينصب في بولندا والتشيك.
وبعد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألمانيا الذي وصف بأنه ناري للوقوف بوجه هذا المشروع والمشاريع الأخرى، وان كان يحتاج بعض الوقت، ونتذكر قول بسمارك: «ان الروس يحتاجون وقتاً طويلاً لاسراج خيولهم، ولكن ما ان يفعلوا ذلك حتى ينطلقوا مسرعين».
وفي مطلق الأحوال، فإنه لم يبق من تلك الطروحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب حول قيام «نظام عالمي جديد»، مبشراً بعصر الأمم المتحدة، إلا الوهم، بعد ان داست آلة الحرب الأمريكية مشروعية الأمم المتحدة في أكثر من مكان، وبعد ان أعلن المحافظون الجدد، صراحة، في عهد جورج بوش الابن انهم لا يقبلون نداً ولا شريكاً لهم في نزعات التفرد والهيمنة، والتي تأكد انها هي الأخرى ليست سوى وهم بدأ يسقط في العراق.
سالم الشيحاوي
.......................................................