بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ، أعاده الله على الجميع بالخير واليمن والبركة ، رأيت أن نتحدث عن علاقة التاريخ بما يقدم من مسلسلات تلفزيونية تتخذ من الأحداث التاريخية مرجعاً لها ، لأن هذا النمط من المسلسلات يشيع في هذا الشهر بالذات ، إلى جانب أنماط أخرى بطبيعة الحال ، حتى غدا شهر رمضان شهراً للمسلسلات بامتياز ، تستعد له شركات الإنتاج الفني بالغث والسمين ، ففيه تروج أعمال لا تروج بغيره .
أما عن علاقة التاريخ الحقيقي بالمسلسلات التاريخية فأقول :
إن التاريخ علم له قواعده وضوابطه وأطره المرجعية التي تمنحه الدقة ( إلى أقصى ما يستطيعه الباحث ) ، مما يبعده عن السرد الحكائي وما يشبهه من أنماط السرد الأخرى .
ومنذ القديم عرّف اليونانيون التاريخ بما معناه : التاريخ علم التعرّف على الجدير بالمعرفة من الأحداث الماضية .
وإن كانت عبارة الجدير بالمعرفة ملتبسة ( لنسبيتها ) ، فهي تختلف من شخص إلى آخر ، ومن فئة إلى أخرى ، ومن مرحلة زمنية إلى أخرى ....
أما بالنسبة للمؤرخين المسلمين والعرب فقد تعاملوا مع التاريخ على أنه رواية الأحداث الماضية عن أشخاص ثقاة رأوها أو سمعوها ، وهذا ما يعرف بأسلوب العنعنة : ( حدثنا فلان عن فلان ..... وتطول قائمة المروي عنهم بما يتناسب مع قدم الحادثة التي تتم الرواية عنها ) ، وكأنهم جعلوا من الراوي الثقة ما يوازي القرينة والوثيقة ، بل قد يتفوق عليها في بعض الحالات .
ومن الملاحظ أن المؤرخ يدّعي أنه يقول الحقيقة كاملة ، أو إن شئتم إنه يدّعي أنه يقول الحقيقة الحقيقية ، وهو على إيمان كامل بذلك ( مهما كان حظه من المعرفة والاطلاع ، ومهما كانت درجة أهمية المراجع والمصادر التي يستند إليها ومدى شمول تلك المصادر والمراجع ) ، اللهم إلا إن كان يقوم بعملية تدليس وتزوير مقصودة ، لأسباب أيديولوجية غالباً .
والمؤرخ ، أعني عالم التاريخ ( أي الذي يحترف كتابة التاريخ ) ، ملزم بالنزاهة وإيراد الحقائق ووجهات النظر كلها ، حتى وإن تعارضت مع ما يؤمن به ، والتعامل معها بدرجة واحدة من الأهمية ، فالمؤرخ الحقيقي النزيه ملزم ( وملتزم ) بإيراد كل ما اطلع عليه من أجزاء الحقيقة ( وينبغي ألاّ يقصر في الاطلاع والمتابعة والبحث ، وألا يكتفي بالمراجع المنتمية إلى أيديولوجية بعينها أو وجهة نظر محددة سلفاً ) .
والمؤرخ يتحدث بالوثائق والقرائن والشواهد ويتحدث عنها ، فإذا كانت الوثائق والقرائن والشواهد تعاني من النقص وعدم الاكتمال فإنه يشير إلى ذلك ، دون أن يسمح لنفسه بأي حِزْرٍ أو تخمين أو استنتاج أو مغامرة لسد الخلل وملء النقص ، فإن فعل شيئاً من ذلك فعليه أن يعلن بوضوح أن هذا الاستنتاج من عنده ، وأن هذا هو رأيه إلى أن تظهر الوثائق والقرائن التي تسد النقص ، وأنه لا يقول الحقيقة التاريخية . ويعلن دون مواربة أن من حق غيره أن يكون له رأيه المختلف عن رأيه ، طالما أن الأمر في أفق الاستنتاج والتخمين واقتراح ما يراه مناسباً لسد النقص وملء الفراغ .
ولعل من الطريف أن أذكّر بشيءٍ يميز علم التاريخ من العلوم الطبيعية ، ففي الكيمياء والفيزياء مثلاً ينال الطالب من الدرجات بما يتناسب مع الجزء الصحيح من إجابته ، أما في التاريخ فإن الطالب لا ينال أية درجة إذا أجاب إجابة فيها نصف الحقيقة أو ثلاثة أرباعها .... لأن إجابته لا تعطي صورة حقيقية للحادثة ، والجزء الصحيح من الإجابة قد يكون جزءاً من التخليط والهرف والتخبّط ... وقد يكون قد جاء عرضاً وبمحض الصدفة ، أو قد يكون قد قيل من باب دس السم بالدسم لتمرير ما يرغب الراوي بتمريره .
أما المبدع ، والأديب من المبدعين بطبيعة الحال ، الذي يتخذ من الأحداث التاريخية متّكأً لنصه أو عمله ، فإنه غير ملزم بالحقيقية التاريخية كما جرت في الواقع ، أو كما يتم تداولها ، لأن المبدع خالق لعمله أو لنصه ، ومن شروط الخلق أن يكون لا على مثال سابق .
أي أن المبدع يختلق الحدث ، فإن كان للحدث وجود موضوعي فإن هذا الوجود لا يلزم المبدع بشيء ؛ بل إن إعادة صياغة الحدث ، وصنعه على نحو درامي وفني ، هو الذي يميزه من المؤرخ . ففي حين يقدم المؤرخ بشراً حقيقيين كما كانوا في الواقع ( حسب طاقته وقدرته ) فإن المبدع يقدم أبطالاً ورموزاً. وكمثال لما أقول أحيل القارئ إلى ما كتبه الأدباء والشعراء عن طارق بن زياد .. وسيف الدولة الحمداني .. والمتنبي .. وصلاح الدين الأيوبي .. وعبد الرحمن الكواكبي .. وسعد زغلول وسواهم .... وما كتبه المؤرخون عنهم وأترك له ( للقارئ ) أمر المقارنة بين عمل المؤرخين وعمل المبدعين ( دون أنفي حاجة الأمم إلى الأبطال والرموز ، بل ربما كانت الحاجة إليهم أشد من الحاجة إلى حياتهم الواقعية في كثير من الأحيان ) . المبدع ( الأديب ، الشاعر ، مؤلف الدراما التلفزيونية ..... ) يبني الأحداث وفق ما تتطلبه الدراما وليس وفق ما تقتضيه الحقيقة التاريخية ... إنه يبتكر شخصيات درامية لا وجود لها في الوثائق التاريخية ، بقصد شدّ المتلقي بطرافتها أو فصاحتها أو سلوكها في الحب والعشق أو الكره والحسد والغيرة .... والمبدع يضع على لسان الشخصيات ذات الوجود الحقيقي كلاماً لم تقله في الواقع ( بعض المؤرخين يشككون بنسبة الخطبة الشهيرة لطارق بن زياد ، ويستشهدون على ذلك بقرائن متعددة .
بل قد يضع المبدع على لسان شخصياته نقيض ما قيل إنها قالته كما فعل فرحان بلبل في مسرحية الممثلون يتراشقون الحجارة ، حين قوّل عبد المطلب نقيض ما تروي كتب التاريخ أنه قاله لأبرهة الحبشي ) . وأسأل القارئ السؤال البسيط الآتي : هل رأيت أيها القارئ الكريم مسلسلاً تاريخياً دون عاشق ومعشوق وبهلول ومهرّج وحاسد ومحسود .... وهل انتبهت إلى أن التاريخ لم يدخل مخادع العشاق في اللحظات الحميمة .. وأن الأدب هو الذي دخلها ، وأورد أدق التفاصيل عما يجري فيها ، وكأنه كان ثالث العاشقيْن ؟ . في العمل الأدبي والفني يفقد التاريخ تاريخيته ، ويخرج من كونه وثيقة يمكن الاعتماد عليها .. أو قرينة يمكن الاستشهاد بها ... إنه إبداع وأدب فحسب ، أوعمل درامي ( بالنسبة للمسلسلات التاريخية ) ، أما تشابه الأسماء والمسميات فلا يعطيه أية مصداقية ، ومن هنا يأتي تخبط الذين يستشهدون بكتب الأدب لصناعة التاريخ ، كما فعل بعض المؤدلجين لتأييد أيديولوجياتهم ... أما الحوارات والسجالات التي تدور عقب عرض كل مسلسل تاريخي حول حقيقة الأحداث وتزويرها .... فإنه ناجم عن الخلط بين علم التاريخ وما يكتبه الأدباء ويصنعه الفنانون والمبدعون ، ولو تم التوقف عن هذا الخلط لأراحنا المختلفون من هذا الضجيج . قلت ما قلت بخصوص الأعمال الفنية والأدبية التي تتخذ من الوقائع التاريخية إطاراً لها ، أما الأعمال والآداب شبه التاريخية ، ولاسيما المسلسلات الفانتازية كالبركان والجوارح وما شابههما فهي أعمال معاصرة بكل معنى الكلمة وإن ألبسها منتجوها وصنّاعها لبوساً تاريخياً ، ومنحوا شخصياتها أسماء تاريخية ، ووضعوا على أجسادهم لباساً زعموا أنه تاريخي ( مع أنه يفتقد هوية الانتماء لأية مرحلة تاريخية محددة ) ، ووضعوا على ألسنة تلك الشخصيات لغة ذات أساليب تحاكي أساليب بعض المراحل التاريخية ، أو إنها ، على الأقل ، تختلف عن الأساليب المتداولة في المرحلة المعاصرة .... كل ذلك فيما أرجح للحصول على هوامش للانتقاد غير متاحة ، إذ يمكنهم الاختباء وراء أحداث متخيلة ، وتوجيه النقد من هناك لمظاهر الفساد والقصور بصورة مواربة ومناورة ، وبذلك يخاتلون المؤسسات الرقابية في الأقطار المختلفة ، وهذا ما حدث بالفعل ، حين دخلت تلك المسلسلات الأقطار ذات السياسات المختلفة ( بل المتعارضة ) ، هذا إذا أحسنا الظن بصنّاع تلك المسلسلات واعتبرنا أنهم يقومون ببعض النقد وإن على استحياء ... ولم نكن من الذين يقولون أن تلك المسلسلات خاوية من أي نقد ، وأن ذلك من آخر هموم صناعها ، همها البهرجة وجلب المتعة لعين المتابع ، وهدفها نيل رضا السلطات جميعاً ( من الماء إلى الماء ) .... فإن جاء بعض النقد فلأن المتابعين ( الخبثاء ) قاموا بعمليات إسقاط غير بريئة ما خطرت ببال صانعيها ، والدليل على ذلك أن الإسقاطات تختلف من شريحة إلى أخرى ، ومن منطقة إلى أخرى ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأشخاص الحقيقيين الذين يمكن أن نسقط عليهم أعمال وسلوكات شخصيات تلك المسلسلات وأبطالها