المسلمون يعرفون من هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، المشهور بأبي هريرة، ويتفقون على أنه كان ذاكرة حية تسير على قدمين. لكن أكثرهم حتماً لا يدري أن أبا هريرة والذي بزّ باقي الصحابة في رواية الحديث لم يعاصر النبي سوى عامين على أكثر التقديرات. وتذهب الروايات إلى أن الرجل قد روى عن النبي 5,374 حديثاً فقط لا غير، أي ما يربو على سبعة أحاديث يومية! ألا تتقافز في رأسك الشكوك مثلي حول هذا الرقم الكبير؟ إني اتساءل بحيرة: لماذا لم ترو قامات سامقة مثل، أبو بكر أو عمر أو علي مثل هذا العدد، أو نصفه، أو ربعه، وإن شئت خمسه؟ سيأتيك الجواب حالاً، وقبل أن يرتد إليك طرفك، وعلى لسان من...؟ على لسان أبي هريرة: حضرت من النبي مجلساً فقال: "من بسط رداءه حتى اقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئاً سمعه مني، فبسطت ردائي عليّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إلي، فوالذي نفسي بيده لم أنسَ شيئاً سمعته منه". يا الله! ما اسهل الإجابات لدينا في هذا التراث على اسئلة العقل الشائكة والمربكة! يكفي أن تتفتّق مخيلة أبي هريرة عن حكاية عجائبية كهذه لنقول: آمنا بالله! وحتى لو استسلمت لإغواء حكاية أبي هريرة السحرية، فلن اعرف كيف اطابقها مع علامات الاستنكار التي علت وجه النبي، وهو يأمر بحرق ما خطه أبو هريرة وبعض الصحابة من أحاديث، سمعوها منه، خوفاً من اختلاطها بالقرآن؟!!
حسناً، سأضرب صفحاً عن كل ما يحاصر أحاديث أبي هريرة من التباسات تاريخية وتضادات عقلية، لا تتسع لها ضفاف مقال صغير كهذا. لكن دعني أومي فقط إلى حادثة تاريخية، تنام بهدوء بين دفات كتب التراث الإسلامي (انظر مثلاً في طبقات ابن سعد، أخبار عمر، عيون الأخبار) من دون أن يعكر رقادها ضجيج. تقول الحادثة: "أن عمر بن الخطاب أنّب أبا هريرة الذي كان عامله على البحرين بقوله: إني استخلفتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار، فقال أبو هريرة: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت، فقال عمر: بلى والله أوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه. ثم قال إئت بها. فقال أبو هريرة: احتسبتها عند الله، قال عمر: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً. أجئت من أقصى حجر البحرين بجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين. ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر". ماذا ستكون ردة فعل المسلم العادي لو وقعت عيناه أو مسامعه بالصدفة (واقول بالصدفة لأنّ المسلم لا يقرأ عادة وإن قرأ فسوف ينتخب ما يستمزجه فؤاده ويتصالح مع مسلماته) على هذه الواقعة التاريخية؟ الحقيقة، لن يحدث شيء مطلقاً. لماذا؟ لأنّ عقل المسلم يتهيب الدخول إلى الأماكن المفخخة من التاريخ والسير عبر منعطفاته الحادة، إما لخوفه من أن يتسرب الشك (= الشيطان) إلى صدره فيطيح بأصنامه، وإما لخوفه من أن تمتد له يد حراس الدين الشداد ومشايخ الإسلام الغلاظ،، وإما لعجز عقله السادر في عبادة الأسلاف عن محاكمة شخوص الماضي وكائناته الأثيرية.
ولعل من حسن الطالع أن الروايات التاريخية المدونة كانت تحمل قدراً من الرصانة العلمية، وتنطوي على بعض من الشجاعة الأدبية، لكي تبرز لنا وجه أبي هريرة الحقيقي ومن دون مساحيق واصباغ. فالصحابي الجليل بعد أن جرّده عمر من منصبه، وحرمه من رواية الحديث، عاد وبقوة ليحتل مقعدا في كواليس المشهد السياسي كبيدق تحركه بذكاء أصابع معاوية بن أبي سفيان على رقعة معركته مع علي بن أبي طالب. لقد استثمر دهاة بني أمية المخزون المعرفي عند أبي هريرة، وبراعته الفائقة في صنع الأحاديث التي تخدم سياسات الأمويين وآلتها الدعائية مقابل أموال اغدقوها عليه، وقصراً اسكنوه فيه. وهكذا يدّون أبو هريرة نفسه كنموذج طليعي لمثقفي/فقهاء السلطان عبر التاريخ الإسلامي.
أما عبدالله بن عباس فيقف على مسافة بعيدة عن أبي هريرة الذي يحلق وحيداً في عدد الأحاديث المروية عن النبي، لكنه يتجاوز الأخير في مساهماته الغزيرة في تفسير القرآن، كما سنرى. وفق الكتب الإسلامية، فإن بن عباس قد روى عن النبي 1,771 حديثاً. لا يبدو الرقم شاهقاً كمثل سلفه، لكن العجيب أن يكون الراوي هنا مجرد صبي عندما قبض الله روح نبيه! هناك روايات متضاربة حول عمر بن عباس عندما اسلم النبي روحه. منها ما يدعي أن عمره كان عشرة سنوات حينما توفي الرسول، ومنها ما يدعي أن عمره كان ثلاث عشرة سنة، والبعض الآخر يقول بل كان ابن خمس عشرة ربيعاً. وبغض الطرف عن دقة الرقم، فابن عباس كان غضاً وصغيراً على رواية ألف وسبعمائة وواحد وسبعين حديث! ومرة أخرى سوف تسعفنا أدعية النبي في تبديد ضباب الحيرة، واضاءة قلوبنا بأنوار اليقين. تساؤل النبي يوماً: من وضع لي الوضوء في بيت الخلاء؟ فقالوا: عبدالله بن عباس. فقال النبي: اللهم فقهه في الدين. بجلب إناء الوضوء للنبي فاز بن عباس بمفاتيح القرآن، وخرائط كنوزه المعرفية. ولولا أنه لم يضع الإناء لربما بقيت عمادة الفقه والتفسير شاغرة منذ ذاك الزمن البعيد، فسبحان الله مدبر الأمور!
وكما اتسخت يدا أبي هريرة بأموال البحرين، فقد اتسخت يدا حبر الأمة وترجمان قرآنها ابن عباس بأموال البصرة. وإليك حكاية ابن عباس كما جاءت في الكامل في التاريخ لابن الأثير. كتب أبو الأسود الدؤلي قاضي البصرة إلى الخليفة المغدور علي بن أبي طالب: "أما بعد فإن الله عز وجل، جعلك والياً مؤتمناً وراعياً مسؤولاً، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحاً للرعية، توفر لهم فيأهم، وتكف نفسك عن دنياهم، ولا تأكل أموالهم، ولا ترتشي في أحكامهم، وإن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، ولم يسعني كتمانك، رحمك الله، فانظر فيما هناك واكتب إلي برأيك فيما أجبت، والسلام". فكتب علي إلى ابن العباس (ابن عمه على ولاية البصرة) يسائله، فرد عليه الأخير: "أما بعد فإن الذي بلغك باطل، وإني لما تحت يدي لضابط وحافظ، فلا تصدق الظنين، والسلام". فكتب إليه علي: " أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية ومن اين أخذت وفيما وضعت". فرد عليه ابن عباس: "أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك، إني رزأته من أهل هذه البلاد، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه، والسلام". وتمضي كتب التاريخ تحدثنا عن تحدي ابن عباس لمطالب علي بإعادة الأموال، وتهديده بوضع ما نهبه من خزائن البصرة تحت تصرف معاوية فيحاربه بها. اتمنى ألا اسمع كلمات التشكيك حول صحة ما ورد في كتب التاريخ. إننا إذ نفعل هذا، فإننا سنكون بين امرين، احلاهما مرّ. إذا رددنا كل ما يخدش جمالية صورة "السلف الصالح" فكيف إذاً نثق بتلك الكتب التي بين يدينا، وبما هي عليه من تعظيم، وبما عليه مؤلفوها من تبجيل. وإذا قبلنا ما جاء في تلك الوقائع فكيف إذاً نقبل بما جاءنا به أبو هريرة أو ابن عباس من أحاديث وتفاسير! ما الحل؟ سيقول عدماء "علماء" الدين: بل نترفع على ما شجر من مشاحنات بين اصحاب رسول الله. فنحن لسنا بكفء للنظر في ما اعتور علاقات اصحاب رسول الله من خلافات.
لندع واقعة الاختلاس التي تورط فيها اسم كبير بحجم ابن عباس، فليس الهدف من كتابة هذه المقالة تعقب عوراته، أو تصيد عثراته، رغم ايماني العميق بأن من يستأمن على عقل وضمير ودين هذه الأمة حري به أن يترفع على أوساخ هذه الدنيا واطماعها. ما يهمني اكثر هنا هي النزعة الأسطورية التي تغوص فيها تفاسير بن عباس دون سواه من المفسرين. إن تفاسير ابن عباس الغرائبية تحيلك دائماً إلى الأسفار التوراتية ببذخها الأسطوري العجيب. وكما كانت جعبة أبي هريرة مملوءة بأحاديث لا تنضب، فقد كانت جعبة ابن عباس مملوءة هي الأخرى بمفاتيح أبواب القرآن المشرعة على فضاءات ميثولوجية ولكن بنكهة عربية. لقد تجاوزت تفسيرات ابن عباس حدود المنطق، باسرافها في تقليد الحكايات التوراتية، وبتحميلها النص القرآني فوق ما يطيق، لدرجة دفعت ابن خلدون إلى التهكم الصريح بما اتحفنا به ابن عباس، كما اخبرنا الدكتور عبدالرزاق عيد في كتابه القيم "سدنة هياكل الوهم: نقد العقل الفقهي (البوطي نموذجاً)". يتساؤل عبدالرزاق، وعلى لسان ابن خلدون بالقول: من أين لإبن عباس كل هذه العلوم، إذا كان مصدر علومه كعب الأحبار اليهودي المتأسلم؟ المفارقة التراجي – كوميدية تأتي بحسب عبدالرزاق من قيام بدوي (= ابن عباس) بالنقل من بدوي آخر (= كعب الأحبار) الذي بدوره لم يصب من علوم العمران والحضر أي حظ. من الجلي أن ابن عباس استثمر علاقاته مع كعب الأحبار لكي يعب من التراث اليهودي الكثير من القصص الخرافية، ومن ثم يعيد انتاجها بعد تشذيبها بما يتلاءم مع شروط ومعايير الثقافة الدينية عند العرب. ويلفت عبدالرزاق انتباهنا إلى أن ابن الأثير، وقبل ابن خلدون بقرون، وقف متبرماً، وهو ينجز كتابه الكامل في التاريخ، من المسلك الأسطوري الذي انزلقت فيه تفاسير ابن عباس. أليست بمفارقة عجيبة أن يتأفف كلا من ابن الأثير وابن خلدون من تفاسير ابن عباس الواقعة في فخ الاسرائيليات، فيما يجبن "الخلف الطالح" وبالرغم من نضوج المعارف وانجلاء الحقائق العلمية عن إهالة التراب وللأبد على تفاسير حبر الأمة وترجمان القرآن؟
دعني اقتطف لك بعضاً من تفسيرات ابن عباس، كما جاء بها عبدالرزاق في كتابه، وكما جاءت في مصادر أخرى. سأضعها بين يديك بلا تعليق. وأنت لك الخيار في أن تعتنقها أو أن ترفضها:
عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ذهب إلى يأجوج ومأجوج، فدعاهم إلى الله عز وجل فأبوا أن يجيبوه، ثم انطلق به جبريل عليه السلام إلى المدينتين - يعني جابلق، وهي مدينة بالمشرق وأهلها من بقايا عاد، ومن نسل من آمن منهم، ثم إلى جابرس، وهي بالمغرب، وأهلها من نسل من آمن من ثمود فدعا كلاً منهما إلى الله عز وجل، فآمنوا به. وفي الحديث أن لكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب. ما بين كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم على كل باب عشرة آلاف رجل يحرسون، ثم لا تنوبهم الحراسة بعد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فوالذي نفس محمد بيده لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدَّة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاث أمم منسك وتافيل، وتاريس.
أخبرنا هشام بن محمد أخبرني أبي عن أبي صالح عن بن عباس قال خرج آدم من الجنة بين الصلاتين صلاة الظهر وصلاة العصر فأنزل إلى الأرض وكان مكثه في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة وهو خمسمائة سنة من يوم كان مقداره اثنتي عشرة ساعة واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا فأهبط آدم على جبل بالهند يقال له نوذ وأهبطت حواء بجدة فنزل آدم معه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هنالك طيبا فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم. وكان آدم حين أهبط يمسح رأسه السماء فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر فصارت وحشا من يومئذ فكان آدم وهو على ذلك الجبل قائما يسمع أصوات الملائكة ويجد ريح الجنة فحط من طوله ذلك إلى ستين ذراعا فكان ذلك طوله حتى مات . ابن سعد: كتاب الطبقات.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله، عمن حدثه عن ابن عباس قال: الفلق ( في قوله: قل أعوذ برب الفلق): سجن في جهنم.
عن ابن عباس أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد دونه ستر من لؤلؤ قدميه في خضرة. ميزان الاعتدال ج1 ص 593.
بعث عبدالله بن عمر بن الخطاب إلى عبدالله بن العباس يسأله: هل رأى محمد ربه؟ فأرسل إليه: أن نعم، فرد عليه عبدالله بن عمر رسوله أن كيف رأه؟ قال: أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، وملك في صورة أسد. التوحيد لابن خزيمة ص 198.
عن ابن عباس: تكاد السموات يتفطرن من فوقهن، قال: من الثقل. اي من ثقل الله تعالى. الدر المنثور ج 6 ص 3.
وأخرج الطبراني في الاَوسط عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما تجلى الله لموسى تطاير سبعة أجبال، ففي الحجاز منها خمسة وفي اليمن اثنان، في الحجاز أحد وثبير وحراء وثور وورقان، وفي اليمن حصور وصير.
عن ابن عباس: قال أقبلت يهود إلى النبي، فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو. قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخازيق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله. فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع. قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالوا: صدقت. الترمذي 3042.
سأكتفي بهذا القدر، فلا داعي للإطالة. ومن أراد الاستزادة ببعض من فيض معارف حبر الأمة، فلن يكلفه الأمر سوى كبسة زرار على لوحة المفاتيح، ليغرف من المصادر الإسلامية والمواقع الأصولية على الانترنت ما يشاء من خزائن علم ابن عباس. اكثر ما اضحكني أنه في أحد المنتديات، جاء رجل بتفسير "علمي" لظاهرة الرعد، كما جاء معنا أعلاه، فأتت ردود وتعقيبات المشتركين، تشكر وتثني وتدعو له بمضاعفة حسناته، خاصة أنه أجابهم - وعلى لسان ابن عباس- بسر الرعد الذي يسوق سحابه ملك في السماء، كما يسوق البدوي اغنامه على الأرض! هذا موقف جيل الإنترنت والفضائيات والانفجار المعرفي الذي لا يجد غضاضة من المزاوجة بين نظريات العلم الحديث مع نظريات ابن عباس، وبكل راحة ضمير!! ربما كان من حسن حظ ابن الأثير وابن خلدون أن يغادرا هذه الدنيا مبكراً وقبل مئات السنين، وإلا نصبنا لهما المشانق جراء امتعاضهما من تفسيرات ابن عباس. مرة أخرى، لا تسمعوني كلمات معلبة، وتعابير جاهزة مثل: كذب، افتراء، دس، اسرائيليات...الخ. إنك لو اسقطت كل ما لا يروق لك فلن تجد لأبن عباس أثرا. ولو أنك اسقطت حديثاً لأبي هريرة فسيتسلل الشك إلى كتاب البخاري. مشكلة هذا الدين أن اعمدته تقف متراصة كأحجار الدومينو. فإما أن نسقط حجارة واحدة، فينهار البناء باكمله... وأما أن نحفر خندقاً حوله، ونحيطه بأسلاك شائكة، فلا يجرؤ على الاقتراب منه أحد