والمطالبة بالتجديد الديمقراطي أمر جُعلَ منذ زمن بعيد متوافقاً مع تطور ثان مذكور هو الآخر في عنوان هذا المنتدى. وأشـير هنا إلى التزايد السريع في السـكان غير المحليين، فالعالم يصبح أكثر تعدداً في الواقع، لكنه لم يحتفظ بنفس سـرعة التقدم في الروح. فالقوالب الاجتماعية الـ"لامحلية" لم يتم بعد مجاراتها بما يمكن أن أسـميه "منظومة الأخلاق اللامحلية".
تختلط الشعوب وتندمج، جنباً إلى جنب إلى حد لم يكن متصوراً من قبل. وتغيّر موجات الهجرات الإيقاعات والألوان والصفات الغالبة للمجتمعات المضيفة. بشـكل لا يمكن محوه. يعيش حوالي مائة وخمسين مليون مهاجر شـرعي خارج بلدانهم التي ولدوا فيها، ومعهم الملايين من المهاجرين غير الشرعيين.
هذه الاتجاهات ستستمر؛ فقد فككت العولمة الروابط المتينة بين المجتمع والجغرافيا، وصار يمكن أن تكون الفرص الاقتصادية المناسـبة -للأغنياء والفقراء على السواء- موجودة في أراض بعيدة. يدخل إلى سوق العمل في الدول النامية نحو خمسة وأربعين مليون شخص كل عام، ولكن ليس هناك ما يكفي من الوظائف لهم كلهم في أوطانهم. وفي نفس الوقت يُضاف إلى هذا الخليط اللاجئون من الحروب والصدامات الأهلية.
تجلب الهجرة نعمها ومشاكلها على السواء. ويُشكـّل المهاجرون الآن ثلثي النمو السكاني في ثلاثين دولة من دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي حيث تتطلب القوة العاملة المعمِّرة عمالاً جدداً صغاراً. وفي نفس الوقت، تصل قيمة الحوالات النقدية التي يرسـلها المهاجرون إلى بلدانهم الأم كل عام إلى مائة وخمسة واربعين مليار دولار أميركي - وهذه تولـّد فعاليات اقتصادية بقيمة ثلاثمائة مليار دولار- وتلك أكثر من ما تقدمه المسـاعدات التنموية الخارجية أو الاسـتثمارات الأجنبية المباشـرة.
في نفس الوقت، يمكن للجماعات المهاجرة أن تـُرهق بشـدة الموارد العامة والخاصة. فالمنافسة الناتجة مع المقيمين السابقين يمكن أن تولد الاسـتياء والعدوانية. أكثر من نصف المستـَطلعين في العديد من استطلاعات الرأي الأوروبية لديهم آراء سلبية حول المهاجرين. ومـا يسـمى "صدام الحضارات" هو خطر محلي وعالمي في وقت واحد. ولكن الأمر لا يحتاج لأن يكون بهذا الشـكل، ولا هو كان كذلك على مدى التاريخ. نعم، لقد كان الصدام الثقافي عنصراً أسـاسـياً في التاريخ الإنسـاني، ولكن نفس الأمر ينطبق على التعاون بين الثقافات.
يعلم هذا البلد وهذه الجامعة من تاريخكم بالذات كيف تلاقت الثقافتان الإسـلامية والمسيحية في هذا الجزء من العالم منذ عدة قرون، وكم كانت تفاعلاتهما مُغنية لكلا الثقافتين. الوقت والمكان الآن مناسبين لأؤكد على النِّعم المختلفة التي تنتج عندما يقرر الناس التوقف عن الصراخ على بعضهم البعض والبدء بالاسـتماع والتعلم بدلاً من ذلك.
كان التفاعل بين الحضارات نقطة تركيز أسـاسـي في نشـاطاتي خلال الأعوام الخمسين الماضية منذ أن أصبحتُ إماماً للمسلمين الشيعة الإسـماعيليين. وتربط آداب الإسـلام بين العقيدة والمجتمع، وبالتالي يلازم مسـؤولياتي كزعيم روحي التزام قوي بأمور متعلقة بالرفاه الاجتماعي.
الإسـماعيليون أنفسـهم جماعة متعددة ثقافياً، يعيشـون كأقليات في أكثر من خمسة وعشـرين بلداً، أغلبهم في العالم النامي، ولكن أيضاً في أوروبا، بما فيها البرتغال، وأميركا الشـمالية. وتعكس أعمال شـبكة الآغا خان للتنمية هذا التنوع الثقافي الإسـماعيلي، فهي تعمل مع مجموعة واسـعة من الشـركاء لمسـاعدة المحرومين بغض النظر عن أصولهم. فعلى سبيل المثال، يسـرنا أن نعلن أنه تم مؤخراً إعطاء عملنا في البرتغال شـكلاً رسـمياً من خلال اتفاقيات تعاون مع كل من الحكومة البرتغالية وبطريركية لشبونة.
متابعة لمناقشـة التنوع الثقافي، دعوني أذكر أيضاً أن شـراكتنا الأخيرة مع الحكومة الكندية لإيجاد مركز عالمي جديد للتعددية في أوتاوا. سيستخدم هذا المركز كلاً من التجربة الإسـماعيلية وتجربة كندا نفسـها، حيث يزدهر المجتمع التعددي، وحيث، على عكس معظم الآراء في العالم، يرحب ثمانون بالمائة من الشعب بالهجرة كتطور إيجابي.
إن تكريمي اليوم هو تكريم للتراث الذي أمثله، وبقيامكم بذلك، أنتم تجددون قصة ملهـِمة من الوجدان المتعدد الثقافات والاحترام المتعدد الثقافات، من الثقة المتبادلة والدعم المتبادل.
يأخذني هذا إلى سـؤالي الرئيسي. ما الذي يمكننا فعله لتغذية الديمقراطيات الصحيحة والكفؤة، سـواء في إعداداتها القديمة حيث أصبحت الديمقراطيات مملة، أو في إعداداتها الجديدة حيث زُرعت حديثا؟ أود أن أطرح ثلاث اقتراحات، كل منها جليّ ضمن تاريخ هذه الجامعة. علينا أولاً أن نعزز مؤسـسـاتنا المدنية. هذا يعني إدراك أن المجتمع الديمقراطي يتطلب أكثر بكثير من سـياسـيات ديمقراطية. الحكومات وحدها لا تستطيع أن تجعل الديمقراطية تعمل، والمبادرات الفردية أسـاسـية أيضاً، بما في ذلك الدور الحيوي لتلك المؤسـسـات التي تسـمى إجمالاً "المجتمع المدني".
أعني بالمجتمع المدني عدداً كبير من المؤسـسـات التي تعمل على أسـاس خـاص وتطوعي، ولكن التي يحركها دوافع عامة. وتتضمن مؤسـسـات مكرسـة للتعليم والثقافة والعلوم والأبحاث. وتتضمن جمعيات اقتصادية وعمّالية ومهنية وأخلاقية وجمعيات متعددة العرقيات، بالإضافة إلى جهات مكرسـة للرعاية الصحية وحماية البيئة والشفاء من الأمراض. وتعد المؤسـسـات الدينية مركزية ضمن المجتمع المدني، وكذلك المؤسـسـات الإعلامية.
أحياناً، وبسبب انشغالنا الكامل بالحكومة والسياسة، نهمل أهمية المؤسـسـات المدنية. أنا لا أقترح أن نهمل السياسة، لكني أقترح أن يتجاوز تفكيرنا انشـغالاتنا السياسية. من الضروري جداً لتجديد وعودنا الديمقراطية، أن يكون هناك مجتمع مدني مزدهر.
الركن الديمقراطي الثاني الذي أود أن أذكره هنا هو التعليم، التعليم الصارم والمسـؤول والمناسب. يجب أن نقوم بعمل أفضل في تدريب القادة وتوجيه المؤسـسـات لتلبية اختبارات المنافسـة الأكثر تطلباً ومعايير الامتياز الأكثر ارتفاعاً. يعني هذا تجاوز فكرة أن التعليم الجيد يعني ببسـاطة تدريسـاً أكثر شموليةً أي إتاحة مجال أوسـع للتعليم الرسمي. بل يجب أن نرفق اهتمامنا بالكمية باهتمام أشـد بالنوعية. هل المناهج التي ندرّسـها مناسـبة لمشـاكل المستقبل المليئة بالعقد؟ أم أننا لا زلنا نقدم تعليم القرن العشـرين لزعماء القرن الواحد والعشـرين.
يتعامل نظامنا في جامعات الآغا خان وأكاديميات الآغا خان مع تلك المسـائل، حيث يعملان على تطوير مفهوم تحقيق الأهلية والجدارة في العالم النامي، والحفاظ على مقاييس عالمية المستوى تهدف لتوسيع معرفة طلابنا بدلاً من مراعاتهم.
لأمد طويل، لقنت بعض مدارسنا العديد من المواد الدراسية كمتفرعات لالتزامات دوغماتية (أي عقائدية متحجرة)، فمثلاً القضايا الاقتصادية عولجت كما لو أنها خيارات ايديولوجية بدلا من معالجتها من منطلق ايجاد الحلول لمسائل علمية.
كثيراً مـا جعل التعليم طلابنا أقل مرونة، واثقين إلى درجة العجرفة كونهم يحملون الآن كافة الأجوبة، بدلاً من أن يجعلهم أكثر مرونة وتواضعاً، ومنفتحين طوال الحياة لأسـئلة جديدة وإجابات جديدة.
من الأهداف الهامة للتعليم الجيد هو تزويد كل جيل بالأدوات اللازمة للمشـاركة بشـكل فعال بما سـمي "الحوار الكبير" لأزماننا. هذا يعني من جهة أن لا يكون المرء خائفاً من الاختلاف، ولكنه من جهة أخرى التعامل بحسـاسـية مع مبادئ وآراء الآخرين.
يُعيدني هذا إلى العناوين الرئيسية الحالية. لأنه لا بد لي من الاعتقاد بأن الجهل هو السبب وراء نشر تلك الرسـوم التي جلبت كل هذا الألم للشعوب الإسـلامية. فقد لاحظتُ أن الصحيفة الدانمركية التي نشـأ لديها الخلاف اعترفت، في رسـالة اعتذار أخيرة، بأنها لم تدرك أبداً الحسـاسـيات المرتبطة بالموضوع.
في ضوء ذلك، ربما يمكن وصف الإشـكال الذي حدث بأنه بدرجة أقل صدام حضارات وبدرجة أكثر صدام جهل. الاحتمال الثاني لتفسير ذلك قد يكون أن الإهانة كانت مقصودة، وفي هذه الحالة نحن بصدد شر من نوع جديد. ولكن نَسْـبَـنا هذه المشكلة إلى الجهل ليس بأي شـكل من الأشـكال بهدف التقليل من أهميتها. ففي عالم متعدد، يمكن أن تكون عواقب الجهل مؤذية بشـكل عميق.
ربما أيضاً كان الجهل هو ما أتاح لهذا العدد الكبير من المشـاركين في هذا النقاش أن يخلطوا بين الحرية وإسـاءة استخدامها، ما يوحي بأن الغياب الكامل لضوابط النزوات الإنسـانية يمكن أن يشـكل إطار عمل أخلاقي كاف. ليس القصد من ذلك القول بأن على الحكومات أن تـُخضع الخطاب الهجومي للرقابة، ولا الجواب على ذلك يكمن في الكلام العنيف والتصرفات العنيفة. لكني أقترح أن حرية التعبير لن تكون قيمة كاملة ما لم تستعمل بشـرف، وأن واجبات المواطنة في أي مجتمع يجب أن تتضمن التزاماً بالتعبير الواعي والمسؤول.
إذا أمكننا أن نُـلزم أنفسـنا، كل من جانبه، بتلك الخاصية، فإن الأزمة الحالية يمكن أن تصبح فرصة تعليمية، فرصة لإدراك أفضل ووجهات نظر أكثر اتسـاعاً.
الجهل والعجرفة وانعدام الحساسية؛ هذه المواقف تأتي عالياً ضمن قائمة أعداء الشعب الكبار في زماننا هذا. ويمكن أن يكون العمل التعليمي، في أفضل حالاته، علاجاً فعالاً لكل منها.
دعوني انتقل إذا إلى اقتراحي الثالث بتقوية الديمقراطية في العالم التعددي، وتجديد الالتزام الأخلاقي.
يُفترض أن يكون الهدف من العمليات الديمقراطية المشـاركة في السـلطة وتوسيع عدد الناس الذين يمكن أن يسـاعدوا في تحديد القرارات الاجتماعية. لكن هذه المشاركة، التي تتواجد أحياناً وتغيب أحياناً، تعني القليل بعيداً عن الهدف الذي تستخدم من أجله السلطة.
والحديث عن الأهداف النهائية، من جانبها، يعني أن ندخل في دنيا من الأخلاق. فمـا هي أهدافنا المطلقة؟ أهداف من نسعى نحن لنخدم؟ كيف يمكننا، في زمن يصبح تشـاؤمياً أكثر وأكثر، أن نستحث الناس نحو طموح جديد يتجاوز المادية المفرطة والنسبية الجديدة والفردانية النفعية وانبعاث العصبية العرقية؟
البحث عن العدالة والأمن، والنضال من أجل المسـاواة في الفرص، والتنقيب عن التسـامح والتجانس، والسعي خلف الكرامة الإنسـانية، هذه كلها ضروريات أخلاقية يجب أن نعمل لأجلها ونفكر بها بشـكل يومي. وفي دنيا الأخلاق - كما في دنيا التعليم- التكبّـر هو واحدة من العثرات الكبيرة. وحتى انبعاث الشـعور الديني، والذي يجب أن يكون قوة إيجابية، يمكن أن يصبح عامل تأثير سلبي إذا ما تحول إلى عنصر اعتزاز بالنفس. تحذر جميع أديان العالم الكبرى من هذا الإفراط، وباسم تلك الأديان نفسـها كثيرون يغريهم لعبُ دور الله بأنفسـهم، بدلاً من الاعتراف بخشـوعهم بين يدي الذات الإلهية.
يبدو لي أن العنصر المركزي في رؤية دينية حقيقية يكمن في خاصية الخشوع الإنسـاني، حقيقة نكافح كما نشاء من أجلها إلا أننا لن نصل الى مثلنا العليا، ومهما ارتقينا سوف تبقى هناك قمم خفية فوقنا لم تكتشف بعد، أي الإقرار بأننا صنيعة خالق وبالتالي الاعتراف بحدودنا البشـرية. عبر هذا الاعتراف وفي هذا الإقرار، كما يبدو لي، تكمن أفضل حماية لنا من النبوءات المزيفة والأفكار القطعية المسـببة للخلاف. إذا أردنا أن نجد طريقنا عبر حقول الألغام والرمال المتحركة للحياة الحديثة، فإني أعتقد أن إحسـاسـاً معمـَّقاً بالالتزام الروحاني والإطار الأخلاقي الذي يرافقه، سيكونان مطلبين أسـاسـيين لذلك. إن تقوية المؤسـسـات الدينية سيكون عاملاً جوهرياً في هذه العملية، للتأكد من أن الحرية الدينية تشـكل عنصراً أسـاسـياً في مجتمع تعددي. ولكن إذا تقهقرت الحرية الدينية إلى الخلو من الدين عندها تجد المجتمعات نفسـها أرض معزولة وغير واعدة، دون مرشـد، ودون خريطة، ودون أي شـعور بالوجهة النهائية.
مـا أدعو إليه باختصار هو وعي أخلاقي يمكن مشـاركته عبر حصص يتقاسمها الجميع يمكن لها أن تعزز رؤية أخلاقية عالمية.
في الختام إذاً أود أن أسـألكم أن تفكروا معي حول تلك المتطلبات الثلاثة: تشـديد جديد على المؤسـسـات المدنية، اهتمام صارم بالتميز التعليمي، والتزام متجدد بالمعايير الأخلاقية. لأن هذه هي السبل التي يمكننا من خلالها أن نشـجع مناخاً من التعددية الإيجابية في عالمنا، وبالتالي نسـاعد في التعامل مع أزمة الديمقراطية الحالية. لأنه فقط في ظل مناخ كهذا سيمكننا أن نرى اختلافاتنا كمصدر للإغناء بدلاً من مصدر للتفريق. وفي ظل هكذا مناخ كهذا فقط، يمكننا أن نرى "الأخر" ليس بلاء أو تهديداَ بل فرصة ونعمة، سواء كان "الأخر" يعيش في الجانب الأخر للشارع أو في أي مكان في العالم.