أبرز الاتجاهات الفكرية الزائغة في مطلع القرن الثانيلعلّ الجبرية كانت هي أبرز ما تنامى في مطلع القرن الثاني الهجري، واشتدّ دورها، وتفاهم خطرها لشدّة الدواعي اليها، وان كان بروزها يرجع الى ما قبل هذه الفترة بأعوام أو بعض العقود.
فالجبر الذي من شأنه أن يُبرّر عمل الخاطئين والعصاة، ويلقي بالمسؤولية واللائمة على الله سبحانه لا على مرتكبي الذنوب ومقترفي المعاصي يعتبر أفضل وسيلة بأيدي السلطات الجائرة لتبرير ممارساتها الظالمة بحق الرعايا والشعوب.
على أن تاريخ الجبر يعود ـ على الأقل ـ الى ما قبل مجيء الإسلام أي الى «العهد الجاهلي» .
فقد كان الجاهليّون الذين تعرّفوا على هذه الفكرة يبرّرون كفرهم ، وإشراكهم للأصنام في الاُلوهية والربوبية والعبودية مع الله بادّعائهم أنهم مجبولون ومجبورون على الشرك من جانب الله، وانّه لا خيار لهم في ذلك كما قال الله تعالى حاكياً عنهم: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا)[3].
واستمرت هذه الفكرة ورواسبها في نفوس البعض حتى من كبار الصحابة والصحابيات[4].
رغم أن القرآن الكريم كافحها ضمن آيات عديدة فنّدت فكرة الجبر، ونفت أن يكون الله قد جبل أحداً على الكفر أو أجبره على المعصية والإثم، وأكدت على أن الإنسان حرّ في أفعاله، ومختارٌ في تصرفاته، ولذلك يتحمل المسؤولية الكاملة عن أعماله، فيُثاب أو يعاقب بموجبها.
ثم اتخذت عقيدة الجبر وأن الإنسان مسيّر وليس بمخيّر كوسيلة لتبرير بعض السياسات التي كانت السلطات الاُموية تمارسها، فكان معاوية أول من اتخذ ذلك عقيدة بصورة رسمية حيث زعم أن الله يريد أفعال العباد كلها[5]. ولما سُئل عن سبب تنصيب ولده «يزيد» خليفة على رقاب المسلمين قال: أن أمر يزيد قضاءٌ من القضاء وليس للعباد الخيرة في أمرهم[6]!! وبهذا نفسه أجاب عبدالله بن عمر لمّا استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد خليفة، إذ قال: إنّي اُحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملأهم وأن تُسفك دماءهم، وأنّ أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم[7]!!
والى هذه القضية التاريخية أشار الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه «نظرية الإمامة» حيث قال إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب، ولكن بأيديولوجيّة تمسّ العقيدة في الصميم، ولقد كان يعلن في الناس أن الخلافة بينه وبين علي(عليه السلام) قد احتكما فيها الى الله فقضى الله له على «عليّ»، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاءً من القضاء ليس للعباد خيرة في أمرهم، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين، أن كل ما يأمر به الخليفة حتى ولو كانت طاعة الله في خلافه فهو قضاء من الله قد قدّر على العباد[8]!!!
بل ونسبوا مصرع الإمام الحسين في كربلاء الى ذلك أيضاً[9].
ولهذا السبب أيضاً كمّوا أفواه الذين كانوا يُصرحون بأن الناس مخيّرون، وأنه ليست الحكومات الظالمة شيئاً قدّره الله عليهم، وأنه ليس لهم الخيار في رفضها، بل وجلدوا وقتلوا أشخاصاً من كبار الشخصيات والتابعين كالحسن البصري[10]، وابن اسحاق[11] وغيلان الدمشقي[12]ومعبد الجهني[13].
وللأسف اختُلقت أحاديث توفّر الغطاء الشرعيّ لهذا المعتقد على لسان رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ورغم كونها تخالف جميع الاُصول العقلية والنقلية التي تصرّح بأن الإنسان مخيّر، وليس بمسيّر، وأنه مختار في أفعاله وليس بمجبور، نقلها كبار المحدثين الأوائل في صحاحهم ومسانيدهم.
فهذه الروايات التي تقول بوضوح لا إبهام فيه أن كل ما يعمله الإنسان شيء قد فُرغ منه، وجرت به الأقلام، أي أنه من المقدّرات التي لامناص منها، وأن الإنسان ـ بحكم ذلك ـ يفعل ما يفعل لا بإرادة منه بل هو شيء جرت به المقادير، وأنه قد كتب عليه عمله كما كتب رزقه وأجله، فهو لا يزاد ولا ينقص، تفيد الجبر الصريح، والمحض والشامل لكل اُمور الإنسان وشؤونه حتى أفعاله وأعماله الحسنة أو القبيحة، وأنه مُيسّر لما خُلق له، فإن كان من أهل السعادة فهو يعمل للسعادة فقط، وإن كان من أهل الشقاء فهو يعمل للشقاء فقط[14].
وهذا لا شك يصبّ في مصلحة السلطات الجائرة التي تسعى لتبرير أعمالها، والإيحاء الى الناس بأنّ الوضع الاجتماعي لا يمكن تغييره أبداً لأنه شيء قد فرغ منه، فالظالم يجب أن يبقى ظالماً والمظلوم يجب أن يبقى مظلوماً، والقاهر الجابر يجب أن يبقى قاهراً جابراً، والمقهور المغلوب على أمره يجب أن يبقى مغلوباً على أمره.
كما أن هذه الأحاديث بمفادها تدفع بالعاصي والمذنب الى مواصلة مسيره المنحرف، لأنه يعلم سلفاً أنه اُريد له ذلك، وأنه غير قادر لا على تغيير مسيره ولا على تغيير مصيره.
الإمام الصادق في مواجهة الجبريةوقد نهض الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في مواجهة هذه العقيدة الفاسدة في سياق إحيائه لمفاهيم الإسلام الأصيلة وابطال البدع، فرفع في وجه هذه الفكرة لواء الاعتقاد بحريّة الإنسان واختياره في أعماله وتصرفاته، وأعلن بصوت عال عن عقيدة «البداء» التي تعني في حقيقتها أمرين:
أولاً: أنّ الإنسان مختار في أفعاله، وأن في مقدوره أن يغيّر مسيرة وسلوكه إن شاء وأراد.
وثانياً: أنّ الله تعالى ليس مغلول اليدين، فهو قادر على تغيير مصير الإنسان ومقدّره إن غيّر الإنسان سلوكه ونهجه، ومسيره.
وهو تعالى سيبدي للإنسان ما خفي عليه، ممّا كان الله يعلمه بعلمه الأزلي الذي لا تبديل فيه ولا تغيير ولا جهل فيه ولا ترديد[15].
وانطلق الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في بيان هذا المعتقد والتأكيد عليه من القرآن الكريم والسنّة الشريفة اللّذين صرحا بكون الإنسان حراً في أفعاله، مختاراً في أعماله، وليس مجبوراً ومسيّراً.
فقد قال الله تعالى: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[16].
وقال أيضاً: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[17].
وقال ثالثاً: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[18].
وجاء في تفسير الدر المنثور عن علي(عليه السلام) أنه سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)[19] فقال: لاُقِرّنّ عَينَك بتفسيرها، ولاُقرّنّ عين اُمتي بعدي بتفسيرها:
الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر، ويقي مصارع السّوء[20].
وغير ذلك ممّا يفيد أنّ فعل الإنسان مؤثّر في مصيره وأن الله يغيّر مصير الإنسان إذا غيّر الإنسان مسيره وسلوكه.
ولقد أكّد الإمام الصادق على مبدأ (البداء) في روايات قوية العبارة، صريحة الدلالة لتكون في مستوى عقيدة الجبر المنحرفة التي صار لها جذور عميقة في النفوس، بحيث صارت وكأنّها من عقائد الإسلام الأصيلة، واليك طائفة من هذه الأحاديث :
1 ـ عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (الإمام جعفر الصادق): ما عُظّم الله بمثل البداء أي بمثل الاعتقاد بالبداء[21].
2 ـ عن مالك الجهني قال: سمعت أبا عبدالله (الصادق) يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فَتَروا عن الكلام فيه»[22].
3 - عن مرازم بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (الصادق)(عليه السلام)يقول: ما تنبأ نبيّ قط حتى يقرّ لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة (اى لله تعالى)[23].
وغير ذلك من النصوص التي أكد فيها الامام جعفر الصادق (عليه السلام)على أهمية الاعتقاد بالبداء.
على أنّ الامام الصادق (عليه السلام) لم يغفل عن أن ينوّه بالمعنى الخاطئالذي قد يسبق الى بعض الافهام القاصرة، او يحاول من هو مؤيّدي الجبر إلقاؤه فى الاذهان وهو منافاة البداء مع العلم الازلي الإلهي فقال: «ان الله لم يبدله من جهل»[24] وقال: من زعم أن الله عزوجل يبدوله في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه»[25].
كما انه (عليه السلام) لم ينس أن يحذر من الوقوع في خطأ آخر عند تفسير البداء، وهو كون الانسان مختارا اختيارا مطلقا كما ذهب اليه المعتزلة، حيث قال: في معرض الاجابة على سؤال من قال: هل الله فوّض الامر الى العباد: «الله أعز من ذلك»[26].
وهو يعني أن القول بأن للانسان الاختيار المطلق، وأنه اذا اختار عملا فليس لله مشيئة فيما يقوم به، وأنّه يعمل - بعد اختياره - خارج الاذن والمشيئة الالهية، تعجيز لله، وتحديد لقدرته المطلقة.
هذا، ولم يكتف الامام بالاصحار بمبدأ «البداء» في سياق مواجهة لفكرة الجبر الزائغة، بل صرح كذلك ببطلان الجبر اذ قال في الإجابة علي سؤال من قال: أجبر الله العباد على المعاصي؟، لا.[27]
وقال: ان الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذّبهم.[28]
وسأله آخر قائلا: جعلت فداك اجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذّبهم عليها.[29]
ولم يقف الامام الى هذا الحدّ ـ بل نظراً لأهمية المسألة وبالتالي خطورة فكرة الجبر على الصعيد الفردي والاجتماعي والسياسي ـ شنّع على القائلين بالجبر قولهم بذلك، وحرم التردّد عليهم ومصاحبتهم فقال:
من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته ولا تصلّوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً.[30]
هذه لمحة عابرة حول مواجهة الامام جعفر الصادق لفكرة الجبر الزائغة والتأكيد على المبدأ الاسلامي وهو حرية ارادة الانسان واختياره وقد توسّعنا فيها نظرا لأهيمتها.