:: ((الينابيع الفكرية لديك الجن)) تأليف: مهتدي مصطفى غالب
السبت, 09 فبراير, 2008
الينابيع الفكرية لديك الجن
بقلم:مهتدي مصطفى غالب
في تاريخ الفكر الإنساني المؤرخ للشخصيات التي ساهمت في بناء هذا الفكر دائما يسيطر الخيال على الواقع فيأخذه إلى آفاق بعيدة عن حقيقة المعرفة العقلية ، إلى بحر متلاطم الأمواج لا يهدأ و لا يستقر ... يقود شراعه ارتباكٌ بالرؤية التاريخية و إعتام لزوايا منها لا تخدم الخيال رغم تعارضها مع الواقع فتلغي من حياة و فكر المبدعين ما لا يلاءم رؤيتها الخيالية لتعيث تخريباً للواقع بأسطرته و خرفنته ، فبين الأسطورة و الخرافة تنسج حياة مفكرينا فتغلفها بأطر و مضامين تحتاج لأكثر من قراءة عقلية و فكرية تنبع من التحليل المنطقي لمنطقية الوقائع و الواقع ,كي نسحب شعرة الحقيقة من طحين الخيال و الأوهام.
و من أحد هؤلاء المبدعين المجددين في تاريخ الشعر العربي الشاعر الملقب بديك الجن الذي حوصر شخصاً و شعراً و فكراً و حتى عقيدة بمأساته الشخصية التي لا تعدو كونها حالة من الحالات الإنسانية التي تعيشها البشرية على مدار عصورها، و هي ليست حالة استثنائية و نادرة لم تحدث إلا مع شاعرنا كي نغلف حياته و شعره و فكره بها و نخفي مدرسته العقلية التجديدية في الشعر العربي بين حناياها فيبدو هذا الشاعر العبقري و المميز و المؤثر بمن عاصره و تلاه :ماجناً ، قاتلاً، طائشاً, وحشا بثوب إنسان ، فنخرجه من عبقريته الإنسانية إلى وحشية خيالنا الانتقائي، لدرجة نغيب فيها ديوانه الشعري الذي ذكره نقاد معاصرون و لاحقون له ، و نستعيض عنه بدواوين انتقائية مجتزأة لقصائد مشتتة و مبعثرة بين كتب الأدب الانتقائية الاختيار، و لقد أطلعت على ثلاثة منها..حتى الآن, و قد يوافينا المحققون بأكثر من ذلك ... فوجدت أنها و إن اختلفت قليلاً إلا أن القصائد الناقصة بقيت ناقصة في جميع ما سمي ب:ديوان ديك الجن, و القصائد التي لم يبقَ إلا مطلعها لأسباب تعود لانتمائه العقائدي ، أما قصائد الخمرة و المجون و القتل فهي كاملة و تامة... أليس هذا ما يثير العجب العجاب.؟؟
من هو ديك الجن ؟؟
هو عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم،أبو محمد ، الكلبي، فهو عربي النسب، و غير مشترك نسبه بأصل غير عربي، ولد في سلمية عام 161هجرية(777م) ..في أسرة عرفت بعملها في الإدارة و المناصب الإدارية لدى الخلافة العباسية ، فجده عبد السلام بن عبد الله بن رغبان تقلد ديوان العطاء في بغداد في عهد المنصور و إليه يُنسب جامع بن رغبان في بغداد ، ثم هاجرت عائلته إلى سلمية نتيجة لموقفها المذهبي و لكون سلمية في ذلك الوقت معقلاً فكريا للشيعة، و كان والده مشرعاً و مفصلاً للحكمة،و هو الابن البكر لوالده، و بعيد ولادته توفيت والدته و هو رضيع ، فعهد به والده رغبان إلى مرضعة تعهدت إرضاعه ’ لتكتمل ماساته الشخصية بوفاة والده قبل أن يبلغ العاشرة من عمره ، فيتعهد تربيته ابن عم له يقطن في حمص ، فتبدأ علاقته بمدينة حمص في حي من أحيائها المعروفة حتى الآن و هو حي
( باب الدُريب)) حيث أكمل طفولته و مراهقته ليعود شاباً إلى سلمية ، رغم انه لم ينقطع عنها أبداً ، ليتابع تثقيفه الفكري و العقلي في دار الحكمة التي أسسها الإمام أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق في دار هجرته و ستره في سلمية لتكون مدرسة فكرية خرجت من زواياها رسائل إخوان الصفاء- و لا بد من الإشارة إلى معاصرته للزمن الذي كتبت به هذه الرسائل و لذكره لأخوان الصفاء في شعره ، و يا للمصادفة أيضاً في رثاء جعفر بن علي الهاشمي حيث يقول:
بكاك أخٌ لَمْ تَحْوِهِ بقرَابةٍ بلى إنَّ إخوان الصفاء أقاربُ
أعتقد أن هذا البيت - إضافة لإشارات أخرى كثيرة لا يتسع مجالنا هنا لذكرها- يقربنا من منبع مهم من منابع الشاعر الفكرية التي كونت عالمه الشعري .
لقبه (( ديك الجن)):
لُقِبَ بديك الجن فاختلف الرواة و المفسرون بتفسير هذا اللقب ، فمنهم من قال : أن ديك الجن :هي دويبة صغيرة تعيش في البساتين ,و لكثرة عيشه في بساتين حمص كالميماس و غيره دُعي باسمها، و أخر قال: إنها دويبة تعيش في خوابي الخمرة، و لكونه شريباً و خميراً كما يزعمون، فدعي باسمها، و ثالث يقول : إن شاعرنا يملك عينين خضراوين تشبه لون الحشرة فكني بها، و قبل ان نتابع سرد هذا الافتراضات لا بد من القول أنه لو كل من عاش في البساتين سُمي ديك الجن لأصبح نصف البشر ديوكاً للجن، و كذلك لمن شرب خمراً أو كان ذا عينين خضراويتين... إنها تفسيرات قاصرة أو بالأحرى متعمدة لإضافة نفس خيالي على مأساة الشاعر ، و رابع يروي قصة عجيبة غريبة إذ يقول: أن ديكاً لأحد جيران الشاعر في حمص سقط في بيته فذبحه و أكله مع رفاقه فغضب الجيران لفعلته و سموه ديك الجن.
هي فرضيات نراها بعيدة عن المعنى اللغوي للكلمتين كمفردتين أو جملة ،ف:الديك:الرءوف= الربيع= ذكر الدجاج ، و الجن:من النبت: زهره و نوره، و من الشباب : أوله، و بربط المعاني المتقاربة للمفردتين ممكن أن نفترض أن المقصود بهذا اللقب : إما ربيع الزهر، أو ربيع الشباب ،أما إذا أخذنا الجن بمعنى المستور أو المخفي أو المخبوء فيكون ديك الجن : الربيع المستور أو المخفي أو المخبوء و هي أقرب كما نرى لغة كتفسير للقب ديك الجن.
ينابيع ديك الجن الفكرية:
شرب شاعرنا من منابع غزيرة بالفكر العقلي الإستنتاجي حتى تكونت شخصيته التي عبرت عن نفسها من خلال شعره و حياته،و من أهم هذه الينابيع :
الينبوع الأول (أسرته):
التي بدأت سكب دمائها في أوردته و شرايينه منذ طفولته ، فهو نشأ في أسرة عريقة بالهم الثقافي و العلمي و العقلي و معروفة بدورها الحضاري من خلال المناصب و الأعمال الإدارية و التعليمية التي تولاها أفرادها منذ جدهم الأول فاستمد من ينبوعها علوم اللغة العربية و الأدب و الدين و التاريخ، كما عبر عن ذلك بقوله:
ما الذنب إلا لجدي حين ورثني علماًً و ورثه من قبل ذاك أبي
الينبوع الثاني( مدرسة إخوان الصفاء في سلمية):
سبق أن أشرنا إلى ملامح تأثره بهذه المدرسة الموسوعية الجامعة التي نشأت و تطورت في مرحلة تكونه الفكري في سلمية فلابد و هو القريب مذهبياً من روادها من أن يشرب من هذا النبع ليقطف ماء الفلسفة العقلية العربية في بداية خروجها من قمقم الستر و التقية لينضج فكره الموسوعي العام إضافة للفكر الموسيقي الذي اشتهرت براعته النظرية و التطبيقية فيه.
الينبوع الثالث ( التراث العربي):
استقى من هذا النبع ما اعتبره حلا لمشاكل المجتمع على مر الدهور، ألا و هو فكر العدالة الاجتماعية عند شعراء العصر الجاهلي و خصوصاً الصعاليك.
ما الشنفرى و سليك في مغيبة إلا رضيعاً لبنانٍ في حمى أشهبِ
الينبوع الرابع (حياته في حمص):
عاش مراهقته و شبابه في مدينة حمص, في فترة كانت فيها المدينة مزدهرة ببساتينها و منتزهاتها فهي مقصدٌ للزوار من نسميهم حالياً سياح، مما أعطاها بريقاً فنياً وهب شاعرنا رؤيته التجديدية في الشعر لفظاً و معنى.
الينبوع الخامس (مأساته):
أن تسمع المأساة أو تراها شيء ، و أن تعيشها بكل تفاصيلها شيء أخر ، هذا الينبوع الوجداني الدامي و الدامع أنزف الشاعر بعد جرحه في مقتلة روحية قاسية صبغت شعره ببكائيات مكتوبة بحبر الدمع و الندم و التألق ..
و مأساة ديك الجن هي مأساة الغضب المتسرع و اللحظة التي تغافلنا بها النزوات مستغلة غياب العقل ، لتجعلنا نرتكب الخطاء و الخطايا,
أحب الشاعر عبد السلام جارته المسيحية فتزوجها و عاشا يتمتعان بروعة الحب و الوفاء إلا أن سيف الخديعة و الخيانة و المكر شهر بيد اقرب المقربين ، و لا تأتيك طعنة الغدر إلا من الأقرب إلى القلب ،إنه ابن عمه أبو الطيب ، الذي فعل المستحيل كي ينكد عيش الشاعر و يقهره و لكنه لم ينجح إلا مرة و كانت هذه المرة قاتلة للشاعر و حبيبته و زوجته (ورد) و صديقه الأقرب إليه (بكر) فقتلهما بيديه ظلماً بعد أن استطاع سيف الغدر أن يغطي عقله و يحجب عنه الرؤية لتنشب الغيرة أظفارها بقلبه رافعة سيفه ليقتلهما في مأساة و فجيعة زاد أثرها حين اكتشف براءة القتيلين من الخيانة المزعومة.
قال الشاعر قبل اكتشافه البراءة:
سوف آسى طول الحياة و أبكيك على ما فعلتِ لا ما فعلتُ
و قال بعد معرفته الحقيقة:
لو يدري الميتُ ماذا بعده بالحيِّ حلَّ بكى له في قبرهِ
غصصٌ تكادُ تفيض منها نفسه و تكادُ تُخرج قلبه من صدرهِ
هي مأساة بكل ما للكلمة من معنى ، إن كانت مكيدة ؟؟ أم ثورة غضب ؟؟ أم غيرة ؟؟ أم جهل بحقيقة المرأة لحكم مسبق ؟؟ أم ...أم ..كل هذه الاحتمالات غطت روايات مأساته التي هي مأساة شخصية دُفع إليها الشاعر ... ليختتم حياته بين كأس من خمرة الحب و كأس من دمع الندم باكياً قصائد لولا هذه المأساة ما كنا قرأناها ، و ما كنا عرفنا الشاعر لأن هذه المأساة سلطت ضوء النقاد الانتقائيين على شعره.
نهاية المأساة:
توفي ديك الجن عام 235 هجرية(849م) في حمص و دفن فيها ، بعد عمر لم يفارق به حمص إلا إلى مدينته سلمية ، و قضى عمره شاعراً افتتن الناس في العراق بشعره و هو في الشام ، و صار الناس يبذلون الأموال للحصول على قطعة من شعره، فاق بشعره شعراء عصره ‘ و طار صيته في الآفاق، لم يتكسب بشعره حيث لم يمدح خليفة و لا غيره ، بل لم يرحل إلى العراق رغم رواج الشعر فيه في زمنه
و أخيراً .. ما قدمناه هنا هو إطلالة على ينابيع ديك الجن الفكرية ، مع لمحة عن حياته و التي بحاجة لدراسات متعمقة تستخلص فكره و حياته من خلال ما تبقى لنا من شعره ، و لا بد لنل أن نختم مقالنا هذابقول الدكتور ابراهيم فاضل في الشاعر:
(( للشاعر ديك الجن عقيدة عقلية تضع يده على مفتاح الحياة السرمدية ، و تشرفه على أرض الفناء و الحصاد العارية ، و يرى النوائب و النوازل بتهمة الغاية و يجعلها بصيرة لا تطرق بيتاً تجهله ، و لا تقصد بشآبيبها هدفاً معمي)),