الحيز المشترك للفلسفة والديمقراطيةيجب الاعتراف بأن وضع العالم الراهن، وخطى العولمة المتشددة يولد من التمزقات والتوترات والتناقضات والصراعات الجماعية أكثر مما ولـّده تصدير مجتزءات الحداثة المادية إلى المستعمرات في القرنين التاسع عشر والعشرين. فلا الباحثون والمنظِرون من أعلى المستويات المعرفية والكفاءة، ولا الجيوش الجرارة من مديري الشركات المتعددة الجنسيات، ولا السياسيون الذين يحتكرون استخدام ‘العنف الشرعي’ (كما يقول ماكس ويبر) يدرجون في تحليلاتهم وتوقعاتهم واستراتيجياتهم التنموية المشاكل الحقيقية وحاجات وآمال أولئك الناس المحرومين من التمثيل الصحيح ، ومن إمكانية التعبير المباشر عن الرأي وإمكانية التحرر. إن المضامين الفلسفية لهذه العملية العالمية من التغيير، والتي تتعلق بالبحث العلمي بقدر ما تتعلق بالمبتكرات التكنولوجية والتوسع الاقتصادي، لم تحدث كمعايير حاسمة عليها أن توحي بالقرارات على كافة المستويات في مجالات النشاط كافة. وهذا لأن الفكر الفلسفي بحد ذاته قلما تحركه الحاجات الملحة لإعادة النظر في الروابط الأساسية التي تجمع بين الفلسفة والديمقراطية. إني أشير هنا إلى التقرير المعبر جداً بعنوان الفلسفة والديمقراطية حول العالم، الذي وضعه روجر بول دروا بطلب من اليونسكو، عن الحالة الراهنة لتدريس الفلسفة في الدول الأعضاء. ونادرة هي الدول التي أدخلت أو عززت أي تدريس جدي للفلسفة في المرحلة الثانوية. وفي السياق الإسلامي، فإن التراث الفلسفي الغني الذي تطور من القرن الثامن وحتى وفاة ابن رشد عام1198، قد فـُقِد منذ القرن الثالث عشر. وهنا نجد كيف يعرف دروا سمات ‘الحيز المشترك’ الأساسي للفلسفة و الديمقراطية: كلاهما يجلب " علاقة تأسيسية"بالخصائص التالية:
1. الكلام: لأن الفكرة لا توجد إلا حين تـُصاغ بكلمات وتُشرح وتـُطرح للمناقشة، والنقد والمجادلة من جانب الآخرين: هذه الملاحظة تنطبق على الفكر الفلسفي كما على المواقف السياسية في الديمقراطية.
2. المساواة:لأن المرء لا يسأل الآخرين " بأي حق" يتدخلون في الجدال؛ ولا يطلب منهم بأي شكل أن يكون لديهم أية سلطة أو تفويض؛ يكفي أنهم يتكلمون ويجادلون. [ إنني أعدل في ملاحظة دروا على الشكل التالي: في منظور العولمة، لم يعد مواطنو دولة معينة فقط هم الذين يشاركون في النقاش السياسي؛ فلأول مرة في الفلسفة منذ قدماء الإغريق، تجد البشرية كافة تهتم بالنقاش السياسي بقدر ما تهتم بالنقاش الفلسفي حول الموضوع، ولا سيما الشروط المؤسسة للشرعية السياسية في الأنظمة المحلية وحكم الكوكب المأهول]
3. الشك: بما أن اليقين الفوري قد تزعزع، فقد أصبح من الضروري، للتأكد من أن الباب مفتوح للبحث عما هو حقيقي وللمناقشة العامة للموضوع، ألاّ يبقى المرء في عالم من الإجابات والمعتقدات، بل عالم من الأسئلة والبحث.
4. التأسيس الذاتي: لأن ما من قرار خارجي يأتي لخلق المسرح الفلسفي أو المجتمع الديمقراطي، ولا توجد سلطة تشرعها " من الخارج"، ولا شيء يضمنها " من الأعلى"؛ فهي تتلقى قدرتها من ذاتها فحسب ولا تخضع لأي سلطة لا يكونون هم مصدرها.’
1 سأعود إلى الفحص النقدي لهذه التعاريف عندما أقوم بمقارنة وضع الثيولوجي- السياسي الذي تطرق إليه آر.ب. دروا مع الفلسفي- السياسي الذي لا ينفصل عن حداثتنا. هذه المقارنة لا بد منها للإشارة إلى عدم الترابط والمفارقات التاريخية والأوهام في الخطاب الإسلامي المعاصر عن الإسلام والديمقراطية. لكنني سأضع أولاً ثلاث ملاحظات تمهيدية:
فلسفة العولمة 1. في الخامس والعشرين من شباط (فبراير)1795 عرف جوزيف لاكانال الثورة الفرنسية على أنها هذه " اليوتوبيا التثقيفية" التي تهدف إلى " وضع حد لعدم المساواة في التنمية مما يؤثر على قدرة المواطنين على الحكم"
2. وفي الحقيقة، فإن التعليم الفلسفي الذي نظمته الجمهورية كان وما زال يعطى في المؤسسات العامة والخاصة بإعانات مالية من الدولة. وربما كان هذا التقليد الفرنسي قادراً على توليد تذوق للتأملات النظرية؛ ومع ذلك لا يسع المرء أن يقول أن الفكر السياسي في فرنسا والسمة الحالية للديمقراطية ذات الأسلوب الفرنسي بأنها تتسم أكثر منها في أي مكان آخر بالاتجاه الفلسفي الذي تم تعريفه للتو. إن الضرر الأصلي يأتي، دون شك، من السيطرة المحكمة التي تمارسها الدولة الجمهورية العلمانية بالمعنى الفرنسي، منذ تأسيس المدارس التقنية والثانوية. وفي القرن السابع عشر، دافع بنيديكت سبينوزا عن حق الناس في أن " يعلّموا (الفلسفة) جهاراً، على نفقتهم الخاصة وعلى حساب سمعتهم."
32. في منظور العقل السياسي، الذي يـُستعان به للتحكم بجميع عمليات العولمة من أجل المصلحة الحقيقية والثابتة لكل شخص- فرد- مواطن، أصبح من الضروري للمجتمع والنظام أن يثبتا وجودهما ويعيدا تحديد الشروط اللازمة لإيجاد موقف فلسفي معولم بشكل متماسك. بهذا المعنى سأقوم بفحص الإسهام الذي يمكن للفكر النقدي أن يقدمه لهذا المشروع في سياقات إسلامية واقعية.
3. إن مفهوم الشخص- الفرد- المواطن الذي قدمته الآن يستحق الحديث عنه بشكل مطول في المنظورات التي فتحها علم الإنسان (الأنثروبولوجيا ) لاستكشاف جميع الثقافات وتحليلها تحليلاً نقدياً، وليس فقط الثقافات "العظيمة" التي كان لها في أزمنة مختلفة من التاريخ أو لا يزال لها بعض الهيمنة. بعبارة أخرى، لم يعد الاتجاه الفلسفي الكلاسيكي كافياً لإعادة النظر، مع كل المواءمة الوصفية و التفسيرية التي تتطلبها العولمة، في وضع الشخص و الفرد و المواطن في حيـز سياسي وقانوني و ثقافي – وهو حيز لم يعد يقتصر على الدولة- الأمة، وبات أقل منه في المجتمعات الدينية ك
الأمة التي تحاول الحركات الإسلامية إقامتها كنموذج عالمي للعمل التاريخي.
أكثر ما أخشاه هو ألاّ تحظى الدعوة للفلسفة والأنتروبولوجيا الثقافية والتاريخ النقدي للثقافات- خارج جميع الأطر المهيمنة لتحقيق الوجود الإنساني- باهتمام يـُذكر، وربما أقل مما يوجد في سياق الدولة-الأمة، من جانب المؤسسات الاقتصادية والمالية والسياسية، ومن الممثلين الرسميين في المؤتمرات الدولية الكبيرة، ومن الدعاة المختلفي الألوان الذين يسهمون في تسريع خطى العولمة. وهؤلاء الفاعلون جميعاً يفتقرون إلى التهيئة الكافية ليمهدوا مكاناً صحيحاً للمضامين الفلسفية للمسؤوليات التي يفضلون القيام بها بنفس القدر من الفعالية التي لدى الخبراء. والمرء يتبع فيها مشروعاً تاريخياً من ترقية القيم الديمقراطية وتوصيلها إلى كل الشعوب والمجتمعات في العالم بقدر أقل من غزو الأسواق الجديدة للبضائع الاستهلاكية التي لم تعد تجد مشترين كفاية في الأسواق المتخمة.