مما لاشك فيه أن العقلية العربية أنتجت حضارة أو كتبت فصلاً هاماً في الحضارة الإنسانية بدأ عام 630 م واستمر حتى عام 1258 م .
كان العرب موجودين قبل ذلك التاريخ بالطبع, ولكن دورهم في التاريخ العالمي كان محدوداً. وعندما ظهرت رسالة الإسلام بإدارة النبي العربي محمد ( ص) استطاعت تغيير مجرى التاريخ العربي أولاً والعالمي المعروف قديماً ثانياً. واستمر هذا التغيير يأخذ مجراه ويؤثر في المجتمعات التي وصلها الإسلام بقيادة العرب حتى حصل الغزو المغولي 1258 م . واستمر تأثير الإسلام فيما بعد, ولكن بقيادات غير عربية, مثل ( الأتراك العثمانيون في تركيا وجنوب أوربا بالإضافة إلى البلاد العربية. والصفيون في إيران وجزء من آسيا الوسطى وإلى حد ما في العراق وأطراف شبه الجزيرة العربية. والمغول في شبه القارة الهندية ). وقد استفادت الثورة الإسلامية من المعارف البشرية والأفكار المتعددة التي كانت موجودة في المنطقة التي شملها الإسلام مثل: ( بلاد الشام ومصر وإيران ).
كذلك وفدت أفكار وعلوم من خارج حدود الدولة الإسلامية مثل ( العلوم اليونانية والهندية والهلنستية ). بكلام آخر كان لتفاعل الإسلام بما حملت من قيم وأفكار وعقائد وعلوم دينية واجتماعية وأخلاقية وقانونية مع ما هو موجود أصلاً, وما وفد من نتائج هامة تجسدت في حضارة رائعة يعترف العالم بدورها الهام والرائع بما قدمته للإنسانية.
ومن المعروف, وربما المتفق عليه أن قيام حضارة وتحققها في مجتمع ما يحتاج إلى ثورة في نسق القيم والمفاهيم والتصورات العقلية التي تسود بين أفراد المجتمع إزاء الوجود والكون والمجتمع. فالحضارات الإنسانية المعروفة تاريخياً بدأت بثورة معرفية غيرت نظرة الإنسان إلى نفسه " أعرف نفسك" ومجتمعه والوجود من حوله. (1) ولكي تكون الثورة ثورة تحتاج إلى قطيعة مع ما سبقها. (( الإسلام يجب ما قبله))2, أما المعرفة التي جاء فيها الإسلام فتتمثل في القرآن الكريم ( الوحي والإسلام) الذي (فتح آفاقاً أمام العقل والروح ).3 وقد ترجم المسلمون ثورتهم بانفتاح على معظم العلوم واستخدموها لصالح المجتمعات المسلمة. وما كان هذا الانفتاح ليكون لولا الإندفاعة الثورية العربية الإسلامية المترافقة بانفتاح عقلي رائع.
هذه الإندفاعة توقفت بعدما تحولت الخلافة الإسلامية إلى سلطة اسمية فقط, وتحول الانفتاح العقلي إلى تراجع في الرؤية واستبعاد لدور العقل, بعد أن تحولت الثورة العقلية المعتزلية إلى حركة سياسية قمعية تجلت في (( محنة خلق القرآن )) التي قادها الخليفة العباسي المأمون وأخيه المعتصم. وأدت إلى ردة فعل قادها أحمد بن حنبل والمحدّثون ( المفكرون المسلمون الذي تخلوا عن الانفتاح العقلي لصالح النص: القرآن والحديث النبوي بظاهر معانيهما ). وكمل التراجع العقلي بالاجتياح المغولي حين قفل المسلمون باب الاجتهاد ( النظر العقلي وتطوير الفكر وبخاصة الفقهي منه ). عندها توقفت الحضارة الإسلامية عن النمو بقيادة عربية.
حين يتوقف العقل وبالتالي العلم عن النمو, يتراجع أفراد المجتمع إلى عكس ذلك إلى النصوص المتداولة وإلى التفكير التخيلي الخرافي والأسطوري, وبخاصة عندما يترافق ذلك بسيطرة أجنبية كما حصل مع الغزو المغولي, مما نتج عنه نوع من فقدان الثقة بالذات, وإحساس بالاهانة, وإدراك للخسارة التي لحقت بالعقلية العربية.
لقد شكل الغزو المغولي صدمة على مستوى العقيدة الروحية ( وثنيون ومشركون – كما رآهم المسلمون- يحكمون موحدين ), وصدمة على المستوى الحضاري حيث كان هؤلاء المغول مجهولين من طرف المسلمين, وبخاصة العرب منهم, فلم يكن لدى المغول والتتار القبليون حضارة أو رؤية علمية...الخ . وإنما القتل, لقد تنبه العديد من رواد النهضة العربية, أواخر القرن التاسع عشر, وأوائل العشرين إلى الوضع البائس للعرب, وحاولوا تصحيح ذلك الوضع. لكنهم عادوا إلى تاريخهم وإلى تراثهم وأرادوا استعادة الحماس الديني المتقد الذي رافق دعوة نبي الإسلام محمد واستمر مع أصحابه طيلة ثلاثين عاماً بعد وفاته. هذه العودة ترافقت ببعض العقلانية, فبدأوا البحث في التراث وأرادوا بذلك البدء بثورة معرفية, مماثلة لتلك التي تجلت أيام كان العرب / لكنه دين أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم. روز اليوسف عدد 3696 16/4/1999 / . المسلمون هم قادة الحضارة الإنسانية خلال القرون السبعة الهجرية الأولى؛ ولكن السياق اختلف والوضع تباين. فاستحالت محاولتهم إلى تنازع مع تيارات محافظة متحجرة التفكير. وانتهوا بشكل ما إلى ضرورة تقليد السلف. لم تنجح هذه النخبة في تقديم شيء ذي أهمية لأنها لم تفكر في المنهج وإنما اكتفت بالتقليد imitation . ولن يجدي التقليد في تجديد الفكر أو العقلانية أو إبداع ما هو مفيد للحاضر والمستقبل. وما يزال المفكرون العرب, المسلمون, بخاصة ذوي النزعة الإسلامية يحاولون بعث هذه الأمة عبر تفسير النص المقدس " القرآن والسنة النبوية", مستعينين بما ترك الماضون من تراث لهذه الأمة, ولكن هذه المحاولات- كما يبدو- لن تصل إلى نتيجة فاعلة ومؤثرة في العقلية العربية المعاصرة, لأن النزعة الماضوية ما تزال هي المسيطرة, ولأن مناهج التعليم وأجهزة الإعلام العربية ما زالت تكرس هذه الماضوية وتدعمها بشكل مباشر أو غير مباشر, عن وعي أو لا وعي.
لقد وضع الزمن والتطورات اللاحقة مع عصر الانبعاث العربي 630-1258 م فكراً ومنهجاً وغطاءً سميكاً من التأويل البشري يصعب على النخب المعاصرة إزالته أو القطيعة معه. وبرغم محاولات من أراد القطيعة مع هذا التراث وبرغم كل التبريرات المنطقية والعقلية والضرورات العملية فإن هذه القطيعة لم تتحقق, وما يزال هذا التراث محترماً- وربما مقدساً- لأسباب وجودية تدعمها قوى سياسية وثقافية واقتصادية مؤثرة تحبط كل محاولات الانبعاث والتجديد وهذا ما يعيق العقلانية العربية عن الانتعاش والانبعاث والعودة إلى ممارسة دور مبدع خلاق.
شو رأيكن بهل كلام