رؤية مخالفة لإخوان الصفاء
ثناء درويش : ميدل ايست أون لاين 27/5/2005
اديبة سورية
الرسائل، في عمقها الفلسفي والروحي وفي بُعدها الرمزي، مازالت تحتفظ إلى اليوم بمصداقيتها كاملة. حين تقرأ رسائل إخوان الصفاء للمرة الأولى، كإنسان محايد ليس لديه أيُّ انطباع مسبَّق عن هذه المجموعة، سوى معرفته لزمن ظهورها في أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث الهجري...
حين تتأمل محتواها، مبسوطًا في 52 رسالة، بوصفه دعوة إلى تحقيق الغاية الإلهية من وجود ابن التراب على هذا التراب...
حين تستشفُّ ذلك التنظيم السرِّي الدقيق للجماعة، ولأول دائرة معارف علمية في العالم...
حين تفعل ذلك كلَّه، ستعيش الدهشة والذهول، ثم الإعجاب والإكبار، وتحني الهامَ لفكر إلهي استطاع أن يتحول إلى لغة سلسة بسيطة، يستطيع ابن هذا القرن أن يقرأها في متعة وسهولة – فلكأنَّ الرسائل قد وضعت لتُوائِم أزمنةً عديدة.
لذلك، لن أقف طويلاً هنا أمام اللغط الذي أثير حولهم، أو الجدل والأخذ والردِّ حول أسمائهم وهويتهم وانتمائهم، وحتى زمن ظهورهم، ولا حول الغموض الذي اكتنف تنظيمهم؛ فقد كُتِبَ في ذلك الكثير، وتباينت الآراءُ والمواقف، كلٌّ يرى الأمر وفقًا لمنظاره الخاص. وحتى مَن وفَّاهم حقَّهم، وأكد تأكيدًا قاطعًا على هويتهم الإسماعيلية، ظلَّ – معذورًا – يساوره الشكُّ في كثير من التفاصيل الصغيرة.
كيف لا، وهؤلاء قد التجأوا إلى "كهف" تقيَّتهم، يؤثرون التحرك بعيدًا عن عين مراقِبة – إلا من أخذوا عليه عهد الله وميثاقه، واختبروا صِدْقَ ولائه، وأخضعوه لامتحان إثر آخر...
كيف لا، والتاريخ مازالت تكتبُه غالبًا إما أقلام مأجورة، باعت نفسها للسلطة والدينار، فغدا كتابًا مقدسًا لازمًا، وإما أقلام تنقل آراء أسلافها دونما تمحيص أو تدقيق، حتى في أخطائها الإملائية!
لكن القلب الذي آثر نصرة الحقيقة سيسعى رابطًا الأسباب بالنتائج، سائلاً مولاه أن يلهمه الصواب في درب إجلاء سُجُف الغيب عن حياة هذه الجماعة السرِّية.
هوية إخوان الصفاء هناك، على قمة جبل – "المشهد العالي" – يبعد حوالى سبعة كيلومترات عن مدينة مصياف السورية، تقبع أضرحتُهم التي تُعتبَر بنظر الإسماعيليين محجَّة كلِّ مؤمن ومؤمنة، يقصدها كلُّ باحث متقصٍّ عن الحقيقة تخبر عنهم وفقًا للمخطوطات التي أُخرِجَتْ من كهف التقيَّة إلى النور وتقول: هم "إخوان الصفا، وخلان الوفا، وأبناء الحمد".
إخوان الصفاء: دعاة الإمام عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر، عليهم السلام – أول دور الخلفاء – بعد أن ختم الإمام محمد دور الأتمَّاء؛ فكان ضريحُه ذو القباب السبع في تدمر إشارة لذلك. ومنهم: عبد الله بن حمدان، وعبد الله بن ميمون، وعبد الله بن سعيد، وعبد الله بن مبارك، الذين تسموا باسمه – "العبادلة" – دعاته الحُرُم. و...
خلان الوفاء: دعاة الإمام أحمد بن عبد الله؛ وقد وضعوا الرسائل في عهده في 52 رسالة، مضافةً إليها الرسالة الجامعة، على عدد حروف اسمه بحساب الجمَّل (حيث أحمد = 1 + 8 + 40 + 4 = 53)، وعلى عدد ركعات الصلاة من الفرائض والنوافل. و...
أبناء الحمد: دعاة الإمام حسين بن أحمد.
ومضة من حياة هؤلاء الأئمَّة حيث يبدو لي أن معرفة تفاصيل حياة الأئمَّة ضَرْبٌ من الخيال، وهم القائلون: "لا يطَّلع على ولادتنا أو موتنا أحد"، و"ظاهرُنا إمامة، وباطنُنا غيب لا يُدرَك". حيث الإمامة عند الإسماعيلية هي المحور الذي تدور عليه عقيدتُهم؛ وهي سابعة الفرائض وأساسها، لا تصح فريضة من غير إقرار وإيمان بها. والإمام عندهم ظلُّ الله في أرضه، لا تخلو الأرض منه طرفة عين؛ هو عين الله ووجهه، وهو جنبه؛ هو القيِّم على الأنفس ووسيلتها نحو باريها، وهو الشاهد عليها يوم الحساب وفصل الخطاب.
والإمامة رديفة النبوة: ابتدأت من عهد آدم، وَمَضَتْ بحسب خطٍّ موازٍ في تسلسل سباعي، وفق نصٍّ من الأب إلى الابن الأكبر، ضمن شرط العصمة الإلهية. ومن هنا ترجع الإسماعيلية في انتسابها إلى أبعد من الإمام إسماعيل بن جعفر، إلى بدء الخلق وإلى دور آدم – عليه السلام.
وتؤكد كتب الدعوة الإسماعيلية أن هؤلاء الأئمَّة الثلاثة دخلوا كهف تقيَّتهم مخافة الضد الذي ظلَّ، منذ بدء الخلق، يتربَّص بالحقِّ وأهله، حيث الخوف على سيادة الأنا أن تهتزَّ هو الدافع الأقوى. فقد وُجِدَ الأئمَّة في عصر ساد فيه التكالب على الحكم وملاحقة أهل البيت من نسل علي، الذين دوَّتْ صرختُهم في أسماع عدوِّهم، مقلقةً مضاجعهم، وهم يطالبون بمنصب إلهي لا يحق لمخلوق التعدِّي عليه، باعتبارهم ظل لله على أرضه وخلفائه على خلقه؛ بينما يعتبرهم العباسيون، المتقمِّصون منصبًا ليس لهم، مثيري فتنة وبلبلة لشقِّ صفوف المسلمين التي وحَّدوها بالإرهاب والظلم. وهكذا يؤثرون ولوج السَّتْر، لا خوفًا على أنفسهم، ولكنْ صونًا للسرِّ الإلهي المستودع فيهم، لتكتمل الغاية من الخلق التي أرادها الله له في حرب ضروس بين الحقِّ المقهور والباطل المهيمن.
يُعتبَر الإمام عبد الله الرضي أول الثلاثة الأئمَّة المستورين، بأمر الله ووحيه، مقابلاً للسلالة في مراحل خلق الإنسان، ومقابل آدم في تسلسل النطقاء، ومقابل الحسن، أول أسبوع الأتمَّاء. ولد في السنة 179 هجرية في مدينة محمود آباد. أمُّه الأميرة فاطمة ابنة الأمير أُبَيْ. تولَّى الإمامة في السنة 193 هجرية بعد وفاة أبيه، ليغادر تدمر إلى السلمية، ومنها إلى مصياف، قائمًا بدعوته السرِّية المنظمة، موزعًا دُعاته في جزائر الأرض، التي قسَّموها إلى اثنتي عشرة جزيرة، لتنتشر الدعوةُ انتشارًا مذهلاً، خاصة في الشرق الأدنى والمغرب. وقد توفي في مصياف في السنة 212 للهجرة، بعد أن نصَّ على ابنه أحمد، الملقب بالوفي.