شروط الرجوع للوسيط
بعد الحصول على الطبيعة المتطورة لحركة فض النزاع البديل، أضع في هذا المقال مسودة لشروط الرجوع للوسيط للمساعدة على تنسيق وصف عمله مع الحقائق الجديدة التي تظهر. وهذه المبادئ مثل كل شروط الرجوع لأية مهمة هي بالأساس إطار عمل عام للعمل وعلى المسؤول، ذاته، أن يبدي تركيزاً محدد أكثر وأدق بينما يسير العمل قدماً. وشروط الرجوع هذه يمكن أن تعمل بشكل أقصى، كعوامل موجه لمساعدة الوسيط على سؤال نفسه بعض الأسئلة الرئيسية عندما يبدأ عمله لصياغة العملية ولكن في ذات الوقت يصوغها من خلال العملية. إن هدف هذه الشروط هو الحالة المثالية لكن دائماً مع الأخذ بالاعتبار أن ذلك هو أفق لا يمكن الوصول إليه في عالم غير كامل بجميع المقاييس. وبالرغم من هذا التحديد، يبقى ذلك شيئاً ينبغي على الوسطاء أن يطمحوا إليه, إذا كان وعد الوساطة سبب ببعض التغيير في حياة أحد الأشخاص من خلال النزاع, الذي تصفه بمهارة ماريان روبرتس بأنه "الجمرة" التي تدفع العجلات باتجاه التغيير البناء" (حلقة بحث غير منشورة). وفي مكان آخر، تقول "يمكن للنزاع أن يشير إلى عدة طرق بناءة في إحداث التغيير وإعادة تنظيم الحياة. وعلى الأقل فإن القدرة على التغيير الإيجابي تكون أكبر حين يوجد الغضب من حيث يوجد العجز وفقدان الأمل بسبب الكآبة" (ماريان روبوتس، 1977)
سوف أصف دور الوسيط بشكل رئيسي بأنه المساعد الذي يحرك في النزاع رؤية فريدة تعتمد على قيمه ومعتقداته الذاتية،والبقاء في الوقت ذاته موضوعياً، ومع ذلك، حساساً تجاه علاقات الناس فيما بينها ولديه الشعور بالآخر بشكل واضح. وسأبين بأن هذه الخصائص ذات أهمية بالغة في حالات النزاعات العائلية. فبالنسبة لطوني واتلينغ،2 يمكن وصف الطلاق بأنه تحول نفساني اجتماعي، فعلى سبيل المثال،له أهمية مماثلة لبدء المدرسة أو تركها، أو مباشرة العمل،أو الزواج، أو التقاعد و مثل أي تحول نفساني اجتماعي في الحياة هو بحاجة لإعادة توجيه وللآليات الضرورية للتعامل معه بنجاح." وفي ظرف كهذا، لا يمكن في الحقيقة للوسيط إتباع أسلوب – لا علاقة لي – بل يجب أن يكون لديه الشعور بالآخر بشكل واضح. وغالباً ما يصبح الخصوم في مثل هذه الظروف مجانين بشكل مريع نتيجة لما جرى في حياتهم ولكن أدمغتهم لم تمت بعد، وهي تكفي لتبرير فقدانهم السيطرة على الأشياء التي فعلوها بشكل جيد عندما كانوا لا يزالون ينعمون بحياة زوجية سعيدة. هنا يمكن للوسيط مساعدتهم لإعادة السيطرة على حياتهم وواجباتهم الأبوية وحاجتهم وقدرتهم على إعادة اعتبارهم في مجتمعاتهم وأهلهم .
وحسب واتلينغ: "ظل هؤلاء لسنوات يقررون بأنفسهم أشياء مثل ما هو الوقت الأمثل لإرسال أطفالهم إلى الفراش، وإلى أي المدارس ينبغي إرسالهم وأي طعام مغذ يجب تقديمه لهم. فلماذا يجب عليهم الآن إسناد هذا الحق إلى شخص آخر؟ ألا ينبغي علينا مساعدتهم في هذه الصدمة العاطفية؟ وفي مثل هذه المرحلة، يكون الصراع بين الخصوم في أعلى مستوياته وتكون الثقة بينهم في أدناها وهي حالة تكاد لا تستجيب للوساطة الجارية. وغالباً، ينتهك أحد الأطراف عهود الوفاء غير المكتوبة (وحتى غير المنطوقة) (الزوجية والأبوية والمالية والاجتماعية والثفة) التي تم تبادلها في سياق الزواج, ويفشل الطرف الآخر، الذي يركز غضبه وإحباطه كله على ذلك الخرق، يفشل في رؤية أي شيء جيد لدى الطرف الآخر (وقد لا يشعر الشريك المهجور بأن الزواج قد مات بل اغتيل). هنا، يمكن للوسيط الحكيم أن يساعد، من خلال الخبرة والبديهة، بردم الهوة الكبيرة بين الصراع الكبير والثقة الضعيفة حتى يكون هنالك كمية كافية ومهمة من الفهم لإجراء مفاوضات ذات معنى. إن مجرد استخدام تقنيات الوساطة في أسلوب واقعي، لوحده، قد لا يفيد. وفي الحقيقة قد تأتي بنتائج عكسية وفي بعض الحالات قد تولد السخرية. وهنا يمكن استخدام التلخيص بشكل حكيم كتقنية لتوليد تواصل أكبر بين الأطراف من خلال ضمان أن الطرف المظلوم قد تم الاستماع إليه من خلال طرف ثالث محايد لديه القدرة على الشعور بشعور الآخر موجزاً وعاكساً ما يسمعه، ولكنه يقوم بذلك بحكمه، باستخدام تقنية إعادة التأطير الإيجابية دون تشويه الرسالة.
وليكون الشخص وسيطاً مؤثراً، ينبغي عليه أن يؤمن بشكل حقيقي بأن كل موكليه لديهم القدرة أن يكونوا عقلاء ومسؤولين حتى لو كانت صدمة التحول النفساني الاجتماعي قد جعلتهم مجانين بشكل مؤقت – خارقاً بذلك صفات اللاعقلانية واللامسؤولية.
إن روايات الخصوم، في الوقت الذي يلجؤون فيه إلى الوساطة، كما هو موضح مسبقاً في هذه المقالة, هي مشبعة بالنزاع. وهي متجذرة، وهي متكونة في جزء ليس بصغير، من ماضيهم وحاضرهم وآمالهم ومخاوفهم من المستقبل. وعلى الوسيط أن يقوم بتحليل بعضٍ من هذه الأمور كما ينبغي أن تكون لديه القدرة على فهم الأفكار التي لدى كل طرف ووزنها. وهنا ثانية، يمكن أن يكون كل من الإصغاء الفعال والتلخيص علاجياً، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يساعد على تقليص القضايا. ومن هذه النظرة الواسعة يمكن أن تظهر الحلول, وغالباً تظهر. إن فرص الحلول التي تعمل بشكل جيد يعتمد كثيراً على ما إذا كان لدى الموكليين أنفسهم الشعور بامتلاكها .
لا ينبغي أن يتظاهر الوسطاء بأن ليس لديهم عواطف وقيم وآراء. فمن الأفضل الاعتراف بأن العواطف موجودة لكن يجب وضعها في مكان واحد من الرأس وأظهار الحياد في الوقت ذاته. ويمكن القيام بذلك إذا أخذ الوسيط فاصلاً موضحاً بأنه يستجيب لقيمه الداخلية بدلاً مما يضعه الموكلون على الطاولة.
إن قواعد المزاولة التابعة لكلية الوسطاء في المملكة المتحدة، تحفظ الحق لأي وسيط بالانسحاب عندما تتعارض قيمه الشخصية مع ما يريد الزوجين فعله.
هنالك موضوع جوهري عام بين جميع المهن التي تهدف لمساعدة الناس- وهو حاجة الموكلين لاختبار ما إذا كان يتم الإصغاء إليهم وفهمهم. ويظهر هذا، في أغلب الأحيان، بصفته الشيء الأكثر أهمية الذي يمكن للمساعد القيام به. ويصف ستيوارت سوثرلاند (سوثرلاند 1976) وهو عالم نفس رائد، يصف رحلته الشخصية لعشر سنوات عبر المرض الاكتئابي الجنوني الحاد والمجموعة الكاملة من الخيارات المعروفة للعلاج التي كانت متوفرة لديه، بما فيها العقاقير،و العلاج النفسي والعلاج بالصدمات الكهربائية. إن ما خرج به من استنتاج حول الشيء الأكثر فائدة من كل هذه التجارب والمعرفة المهنية كان هو ذاته – أي التكلم والإصغاء وأن يتم الإصغاء للمتكلم وفهمه. وهذا ما ساعده – وليس الحكم على الأمر ولكن، ينبغي على الوسيط القيام بذلك دون أن يحمل مشاكل الناس اليومية معه إلى بيته، وإلا فإنه سوف يصبح مثقلاً بمشاكل الناس وبالتالي سيصبح عاجزاً عن النهوض من الفراش والذهاب بمفرده إلى المكتب. ومن الواضح أنه إذا ما أصبح الوسيط منغمساً بشكل كامل في العالم المليء بالنزاعات ووجهات نظر الموكلين، فلن تكون لديه القدرة لتحديد أصل المشكلة. وسوف يصبح عاجزاً مثل موكله الذي أتى إليه، بعد كل شئ، من أجل المساعدة وهو واقع في عجز مؤقت. وهنا فإن الشعور بشعور الآخر يعني القدرة على السير مع الآخر. ولا أن يكون هو الآخر.
في خمسينيات القرن الماضي، وصف قس يسوعي يدعى الأب فيلكس بستك (1957) وصف الانخراط المتحكم بالعواطف بأنه "حساسية العامل الاجتماعي تجاه أحاسيس الموكلين، ِفْهم معناها والاستجابة الهادفة والمناسبة لشعور الموكلين"، وبعبارة أخرى القدرة على البقاء قريباً إنسانياً من الموكلين، لكن مع القدرة على الابتعاد للتمكن من تحديد أصل المشكلة. إن هذا الانخراط المتحكم بالعواطف يستدعي مداخل واضحة، ولكن في الوقت ذاته، يستدعي التأكد من أن أحداً ما لا يأتي بقيمه المنسوخة عن أعماله السابقة أو دعوات أخرى حيث يكون مطالباً بصنع القرارات من أجل الآخرين، في عملية الوساطة. مثال العاملين في حماية الأطفال، والعاملين في حقل الفساد العائلي وموظفي الإنعاش لمحكمة العائلة. في الوساطة ليس هنالك حاجة لطرف ثالث وسيط للتوصل إلى قرار. وعلى الوسطاء احترام أحكام الوساطة وعدم اتخاذ القرارات. و بالطريقة نفسها، وعندما يطلب من المحامين الوساطة عليهم القيام بها وعدم إسداء النصائح، ما لم يطلب بشكل خاص من المحامين مثلاً إسداء النصيحة حول قضية قانونية وفي هذه الحالة فهم يمثلون دور المحامين وليس الوسطاء. وهذا الشيء لا يستطيع القيام به بشكل أفضل إلا العاملون في العلوم الاجتماعية, ويكون ذلك بشكل رئيسي باتباع منهج سقراط وطرح الأسئلة الصحيحة مثل: كيف تعتقد أن الترتيبات التي تقوم بها ستؤثر على الأطفال؟ أو كيف ستعرف إذا ما كان الأطفال غير سعداء عندما تبدأ المحاولة لتطبيق هذه الترتيبات؟
ولهذا فإن على الوسطاء أن يتصرفوا بالروح الحقيقية لما يعرف "الترتيب الخاص"، أي تخويل الزوجين بفعل أية إجراءات يرونها الأفضل بالنسبة لهم. كما ينبغي أن يكون لدى الوسطاء فكرة عن الماضي، ليس بطريقة المعالجين النفسيين بل لمساعدة الزوحين لإعادة توجيه أنفسهم بالنسبة للحاضر والمستقبل. وكما يقول كيركغارد بجدارة: يمكن فهم الحياة فقط بالرجوع للماضي. ويجب أن تعاش للمستقبل". كما يجب أن يكون الوسطاء"حياديون بالنسبة للقضايا والنتائج، وأن ينظر إليهم بجلاء على إنهم كذلك، "، حيث أنه سيكون هناك على الأقل فريقان في هذه العملية، ومن المحتمل أن ينظر إلى أية حلول مقترحة يتقدم بها الوسيط بأنها منحازة لأحد الطرفين على حساب الطرف الآخر أو أنها ستنال استحسان أحد الطرفين أكثر من الآخر. وهذه هي الحالة في أغلب الثقافات الغربية الفردية اليوم.
وبالإشارة إلى الوسيط الذي يقوم بدور أكثر شعوراً بالآخر دون التورط في كامل النزاع ، فإن بإمكان هذا أن يمارس دوراً بارزاً في كل من الوساطة التغييرية والسردية. ففي أولهما وكمبدأ، كان يمكن للشخص النظر إلى الطلاق على أنه كارثة أو على أنه فرصته للتطوير والتغيير. وهنا، يمكن للوسيط أن يساعد الخصوم على رؤية النزاع بشكل بناء أكثر من خلال التعريف والتفويض (بوش وفولغر، 1994),وهما السبيلان المتلازمان لحصول هذه العملية.كذلك تذكرنا الوساطة التغييرية، أيضاً، بأنه ينبغي علينا الرجوع إلى المبادئ الأساسية في الوساطة التيسيرية. ويمكن للعمل الفعال الذي قام به كل من فولغر وبوش على هذا الموضوع أن يساعد الوسطاء، الذين أشرفوا على النهاية التوجيهية لهذا الطيف، علىالعودة للنهاية التيسيرية. وهكذا يمكن النظر إلى الأزمة على أنها فرصة للتغيير – للناس لإعادة كتابة نصوص حياتهم- فرصة لتغيير حياتهم وأعمالهم وعلاقاتهم ومن الحقيقة َقَدرِهم بأكمله – مع نظرة لإعادة ترتيب حياتهم. إن النزعات الحالية تتجه باتجاه الوساطة التغييرية والوساطة السردية والوساطة العلاجية على أنها نماذج محتملة في المستقبل. وبحصول الوسطاء على الطبيعة المتعددة المفعول للنزاع البشري فإن عليهم، عند الضرورة، أن يستعينوا بمجموعة واسعة من النظم والرؤى من جميع أنحاء العالم لمساعدة المجتمعات البشرية كي تصبح أكثر إنسانية وبخاصة في زمن من النزاع العالمي المتزايد. وعند ذلك فقط تحقق الوساطة وعدها المبرر في تفكيك خيالها العلاجي المطلق في خدمة الجنس البشري. ومن خلال القيام بأبحاث أعمق والمشاركة العالمية في المعارف المختلفة، يمكن للوساطة أن تقدم الفائدة بشكل كبير من هذه الناحية.
وكما حاولت هذه المقالة أن تبين، فإن على الوسيط أن يفهم الشيء الذي يمر من خلاله الزوجان في هذا التحول "النفساني الاجتماعي". ويصف بوهنان (1971) ما يسميه "المحطات الست للطلاق – عاطفية، قانونية، اقتصادية، أبوة مشتركة، مجتمعية ونفساني. وبإمكان الوسيط أن يجعل الفريقين يمران بطلاق قانوني بالمرحلة ذاتها و يمكن أن يجعلهما يمرا ن بطلاق مالي في الوقت نفسه أيضا . و يستطيع أن يجعلهما يخضعان لطلاق أبوي في الوقت ذاته . لكن المراحل العاطفية و النفسية و المجتمعية فهي أكثر صعوبة من أن تتحقق في الوقت ذاته لأنه هذا هو المجال الذي سيدخله الناس و يتقدمون عبر الخط المنحني في أوقات مختلفة. ويجب على الطرفين المطلقين بالذات أن يمرا بهذه المراحل, كل منها على حدة حسب وقتها الخاص.
إن الشخص الذي خطط للطلاق في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة كان قد عانى الكثير من تأثره النفسي ، وقد مر بعملية الحزن المتوقع. والشخص الذي عرفه لشهر واحد فقط,لديه الكثير من المضاعفات ليعانيها فيما يتعلق بالضياع والحزن أي الانتقال من "النكران" عبر "ردة فعل عاطفية" إلى "التخطيط للمستقبل" وأخيرا ً "التماشي مع الحياة خارج إطار الزوجية" (توني واتلينغ) و هذا المجال الذي يمكن للوسطاء دخوله. ولا يمكن في الواقع للقضاة معالجة حالات كهذه و لا يمكن للمحاكم ولا المحامين أيضاً معالجتها, أما الوسطاء فيمكنهم ذلك.
وينبغي على الوسطاء أن يتذكروا بأن الموكلين يدعونهم لفتح نافذة صغيرة في حياتهم الشخصية و العالم. وهذاعليهم القيام به كبشر ,بكونهم على مسافة قريبة جدا ً من الموكلين كبشر مثلهم و الإصغاء إليهم, و الشعور بشعورهم، محاولين أن يتخيلوا كيف سيكون الأمر في عالمهم الخاص. وعليهم في الوقت نفسه التأكد من أنهم لن يتأثروا بشكل كامل بوضع الشخص الآخر، حيث أنه من خلال فعل ذلك, فإنهم هم أنفسهم سيصبحون عاجزين تماما ً مثل الموكلين الذين يقومون بمساعدتهم. وهذه الدعوة لفتح نافذة صغيرة جدا ًهي لحظة بسيطة في حياة الخصوم وهي لا تخول الوسيط بفتح المدخل على مصراعيه .
وهنالك نقطة أخبرة حول الرؤى المتعددة الثقافات والتي حصل عليها الكاتب من خلال سلسلة من 15 برنامج تدريب عالمي في كل من آسية وأفريقية وأوروبة وأمريكة الشمالية, وهذه النقطة هي أن بعض الثقافات، بطبيعتها الذاتية، تتبنى منحى أشبه بالتحكيم لفض نزاعاتهما. فالنزاعات في كثير من المجتمعات ليست أمراً خاصاً تماماً. والكل مهتم بضمان عودة الانسجام وهنا ينطبق القول المأثور في مثل هذه الحالات "أنت إما جزء من الحل أو جزء من المشكلة"(إيلدريدج كليفر، 1968). وهكذا فإن جميع الأطراف المهتمين، يقطفون مشواراً طويلاً في الحل الفعلي للخلاف.