من وحي المسير الرّياضي الثاني إلى البلعاس
**********************************
1ـ انقطاع..واعتذار..!!
بعد غياب لي دام أسابيع عديدة، انقطعت فيها عن المشاركة في المسير الرّياضي لجمعيّة أصدقاء سلمية،وذلك لأسباب مرضية،وغير مرضية،وبالتّالي لم يتسنّ لي توثيق ماقام به الأصدقاء من أنشطة تغطي مسيرهم الرياضي خلال هذه الفترة،وإنّني أعتذر لكلّ الأصدقاء الذين اعتادوا متابعة هذا النّشاط المميّز،من خلال ما أكتبه عنه تحت عنوان(من وحي المسير الرّياضي)وأعد مستقبلاً،إن أعانني الله مواصلة المشاركة في هذا النّشاط ووصفه،والله الموفق والمعين للجميع.ولكي أبدأ بإطلالة جذابة على مسير اليوم سوف أنشد مع الشاعر (ابن الرومي) هذين البيتين للتعبير عن شوقي لأصدقاء المسير،بعد طول غياب، وبعاد:يقول ابن الرّومي:
وليس كإغْذاذ المسير وحثِّه == لتقريب لُقْيان الصديق الأباعدِ
ولم أر مثل الشعر يَنْظم للعُلا == فنون الحُلى لو أنه غيرُ كاسدِ
2ـ انطلاقة المسير، ووصف التضاريس والبيئة في محميّة البلعاس..
أيّها الأصدقاء:انطلق المسير الرّياضي لهذا الأسبوع نحو محميّة جبل البلعاس ،
عند الساعة الخامسة والنّصف صباحاً،وكان وصولنا إلى مشارف جبل البلعاس عند الساعة السابعة والنّصف تقريباً،وفوراً باشر الأصدقاء مسيرهم عبر وهاده ومهاده، وشعوبه...
*************************************************
أصدقاء المسير يحثون الخطا، على دروبه الجبلية الصعبة، في جبل البلعاس.
************************************************
قلت لصديقي على دروب المسير،وكان فنّاناً يدرك مواطن الجمال في النّفس، وفي الطبيعة:كيف ترى البلعاس...فبل أن تمتدّ إليه يد الإنسان اللآثمة وتقطع أشجاره،وقبل أن يسيّب قطعان أغنامه تسرح، وتمرح في محميّته...؟؟أجاب وباختصار جنّة من جنان الدنيا..وأضيف فعلاً كان البلعاس جنّة وارفة الظلال، ومصيفاً ،ومربعاً، وغابة للصيد، لكلّ أهالي منطقتنامن محبّي النّزهات والصّيد البري..حتى أنّ البعض كان يقصده منلبنان الشقيق..وكلّ من في عمرنا يتذكر رحلات صيد المطرب وديع الصافي إلى غابات وأحراش منطقتنا،التي كانت تضاهي أحراش البلعاس في خضرتها وكثافتها..
والبلعاس منطقة تضاريسية جبلية تقع إلى الشرق من منطقة سلمية،وتبعد عن ناحية عقيربات بحوالي خمسة عشر كيلومتراَ،و كون البلعاس
قديما كان محميّة طبيعية،تكثر فيه أشجار البطم، والبلعاس المعروفة برائحتها الزكيّة عند اشتعالها،ممّا جعل الأهالي يحتطبون ويقتلعون أشجارها مما تسبّب بعري هذه المنطقة من هذا الغطاء الشجري الجميل والمفيد،ومأساوية الحال التي وصلت إليها هذه المنطقة فيما بعد،أو في وقتنا الحاضر،من تصحّر تضاريس هذه المنطقة إلا من بعض أشجار البطم المتناثرة هنا وهناك كحبات عقد انقطع سلساله وتناثرت حبّاته في كلّ اتحاه....
************************************************
ذرا جرداء ..وغيود سوداء..وبعض أشجار البطم المتناثرة هنا وهناك..
*************************************************
وكذلك اشتهرت هذه المنطقة بنباتاتها الطبيّة الصحرواية،كالزعتر البري،والشيح،والجعدة، والرّوتة،والقبّار، والعاقول،والقيصوم العطري،والصرّ وشقائق النّعمان،واليوم ونتيجة لعوامل التصحّر التي ذكرنا بعضاً من أسبابها، والتي من أهمّها برأيي انخفاض معدل الأمطار السنوي،وحدوث شحّ في الأمطار، وجفاف على مدى السنوات العشر الأخيرة من القرن الحالي، والرّعي الجائر المتعمّد الذي حدث في سنوات الجفاف الأخيرة، للغطاء الرّعوي لهذه المحميّة، تسبّب بموت معظم هذه النباتات الطبيّة المفيدة،ولم يبق إلا بعض النباتات الخضراء التي لاترعاها الأغنام.مثل هذه النبتة التي رأينا أوراقها الأبريةالخضراء تنتشر بكثرة في روابي البلعاس الشبه جرداء الآن..
*************************************************
نبتة من نباتات بادية البلعاس التي لاترعاها الأغنام،ماتزال تحافظ على خضرتها..
*************************************************
ولكي نعيد إلى هذه الروابي صورتها الجميلة الزاهية المشرقة المتفتّحة بشتى الأزهار والرّياحين تنشد مع الشاعر (عمر اليافي)الذي ولد في دمياط بمصر،وتوفي في دمشق:
مراتعُ غزلانٍ جآذر ربربٍ == ربت في روابي ربع سرب الربائب
فعنّي سل سلمَى وسلسل صبابتي == ومنّيَ سل سلماً ومل عن محاربي
نشأتُ به نشوان حالٍ فمرّ بي == مرور الصبا في زهر روض الأطايب
ويشدّ انتباهك أحيانا كيف أنّ بعض الورود قد شقت الأرض الصلبة، كما في هذه الوردة التي تسمّى(الوحواح) وهناك مثل شعبي يقول
إذا نبت الوحواح،باشر بدور وفلاح).
*************************************************
زهرة الوحواح...تنبت من شقوق الأرض الصلبة..وتشرئب بجمالها وكأنّها ميداليّة وليست زهرة حقيقية..
*************************************************
وكذلك ترى بععض النباتات، وبعض جذوع الأشجار البلعاسية،قد نبتت في الصخور على ضفاف مجرى السّيل..)ولله في خلقه شؤون...!!
*************************************************
أشجار البطم المعمّرة تمدّ جذورها في جوف الأرض الصخريّة..وكأنّها تؤرخ لمئات السّنين..
*************************************************
و منطقة البلعاس كانت قديماً منطقة مراع خصبةللأغنام،ومرتعاً وملاعباً للأرانب والغزلان،ومفقصاً وأعشاشاً للطيور البرّية وخاصة طائري الحجل والفرّي،ومعاص للحيوانات المفترسة كالضباع والذئاب وابن آوى..ومن هذا الوصف التضاريسي البيئي لمحميّة البلعاس..ننتقل إلى وصف مسالك البلعاس وطرقه الوعرة الملتفة، وإلى ما يفيض به خيال الشاعر في البلعاس...!!
3 ـ وصف مسالك البلعاس وطرقه الوعرة الملتفة،..!!
والبلعاس منطقة وعرة،تتخللها سلسلة من التلال المكللة بذرا صخرية،والمزروعة على سفوحها المغاور والكهوف،ومن يعلم ربما سكن النّاس قديماً هذه الكهوف التي أصبحت فيما بعد مأوى للحيوانات المفترسة..!!وتفترش وهاد ومهاد هذه المنطقةشبكة من الطرق المتشعبّة غير المعبّدة التي لايعرف غير البدوي المقيم فيها،مخطط توزعها وانتشارها،ومن أين تبدأوإلى أين تنتهي..؟؟،لذلك فإنّ السّير في مسالك البلعاس صعب وخطر في هذه الدروب الجبلية الصعبة المسالك.،وعندما تنظر إلى أصدقاء المسير،وهم يحثون خطاهم على هذه الدّروب البريّة،تراهم يسيرون بحذر وحيطة شديدتين،.و يتخلل مسيرهم تارة صعود إلى المرتفعات،وتارة هبوط إلى الوديان، هذه الوديان التي يرافق جريانها مجرى ومسيل ماء عريض، ومتشعب لمياه الفيضانات التي تغمر هذا المجرى في بعض السنوات الخيّرة والكثيرة الأمطار..
*************************************************
أصدقاء المسير يعبرون مجرى المسيل الذي يمتلأ بالسيول الجارفة،في مواسم الأمطار الغزيرة...نبتهل إلى الله عزّوجلّ أن يفيض هذا المجرى على جانبيه من جديد..!!
***********************************************
وترى الأصدقاء وهم يجتازون حفر هذا المسيل يتعثرون بالحجارة التي تعرّت، و بدت ككرات بيضاء ملساء ،أشبه ببيضة النّعامة..!!وإنّ باطن أقدام الأصدقاء، ومن كثرة التعثر بهذه الكتل الحجرية المبعثرة على دروب المسير،جعلها كالدمامل...!!
مجرى السّيل العريض الذي يشقّ طريقه في شعاب البلعاس،وحجارته الملساء الناعمة والتي أدمت باطن أقدام أصدقاء المسير...فيالها من طرق صعبة المسالك..!!
وجعلهم يشعرون بعد استراحتهم بألمها وسخونتها ، وبعد مسير دام لأكثرمن ساعة قبل الإفطار،ولأكثر من ثلاث ساعات ونصف بعده ،لذلك فإنّ قسماً منهم لم يستطيعوا قطع جميع مراحل مسير اليوم..بل جلسوا تحت أشجار البطم ينتظرون عودة أصدقائهم النّشيطين..
4 ـ وصف ما يفيض به خيال الشاعر من حبّ في شعاب البلعاس..
والانطلاقة عبر وهاد ومهاد البلعاس تجعلك تحسّ بالحرية والانعتاق من كلّ القيود الاجتماعيّة البالية،ولو للحظات تشعر وكأنك نسر محلّق في ذرا تلاله وجباله،وهذه الحرّيّة المطلقةتجعلك تتآلف مع الطبيعة المفتوحة على كلّ الشرفات السماوية،فهذا جبل شامخ ارتقى قمته الأصدقاء،وتلك كهوف ومغاور حفرت على سفوح التلال وبجانب الوديان...
*************************************************
بعض الكهوف والمغاور التي حفرت على الرّفوف الصخرية بجانب مجرى السّيول...
*************************************************
كذلك صعد إليها الأصدقاء ليكتشفوا أسرارها ومخابئها،وحميّمة الصداقة، وتآلف وانسجام صبايا وشباب المسير مع بعضهم البعض، وهم يغذون الخطا على دروبه، وكأنّهم خارج إطارأيّ زمان أومكان، وهذا الانعتاق العفوي يجعلك تنسى كلّ مافي هذه الحياة من لؤم وغدر وكراهيةوأنانية،ولا تفكر إلا بالحبّ الخالص النّقي الصافي المجرّد من كلّ درن الحضارة وزيفها،وتتصوّر لوأنّ قيساً وليلاه التقيا على دروب مسير الأصدقاء دون رقيب من عشيرة،أوغيظ من عاذل يغار من الحبّ الحقيقي،لتبدّلت عناوين قصص الحبّ العذري،إلى عناوين الحبّ الذي ينفتح على دردشة الانترنيت في عالمنا الغريب العجيب.. والذي أصبح بفضل الكمبيوتر كقرية صغيرة...!!
ولكي نضع إطاراً جميلاً لهذا المشهد،دعونا ننشد مع الشاعر الكويتي(فهد العسكر)أبياتاًمن هذه الأرجوزة الغرامية وهي تتلاءم وأجواء البلعاس الرومنسية، وحبّ قيس وليلاه:
حبّ تغلغل في الصميم == فقضى على الحب القديم
لمهفهف الحسن رص == ع وجنتيه بالنجوم
يا لائميّ وقد غدا == هدفاً لها قلب الملوم
الظلم من شيم النفو == س وقاهُ ربّي من ظلوم
ظبيٌ تغار الغيد من == هُ ولا كغزلان الصريم
شوقي له شوق القطا == ةِ إلى الفراخِ أو الظليمِ
فكأننا قيس وليل == ى إذ غرقنا في الحلوم
وهذه الصورة الجميلة لتحابب وتآلف الأصدقاء على دروب المسير،تنسجم مع جمال أنواء البلعاس وتميّزها في كلّ فصول السّنة...!!
4 ـ جمال البلعاس يتصف بالدّيمومة في كلّ الأوقات والفصول..!!
ونظراً لحبّ أهالي سلمية للبلعاس،وتعلّقهم بروابيه،لذلك يعمدون إلى زيارته في كلّ فصول السنّة،والبلعاس له في كلّ فصل لون ،وطعم خاص عند زائريه،كزيارتنا الخريفيّة الجميلة اليوم إليه،فالغيوم البيضاء والسوداء غطّت السماء،وقطرات من المطر بدأت تهطل بغنج ودلال، مما يبشر بهطول مطر،نتمنّى بعد حين أن يكون مدراراً..!!،ونسيمات الهواء التي بدت لطيفة في ظهيرة النّهار،لكنّها أصبحت رطبة وباردة تلسع وجوه صبايا وشباب المسير في نهاية اليوم.!!.إنّ المسير إلى البلعاس يبدأ بالسّير على الأقدام، وينتهي بالأغاني والأهازيج التي تنطلق من حناجر صبايا وشباب المسير،معبّرين عن فرحهم بهذا اليوم الذي مضى وانقضى بسرعة، لأنّهم كانوا على موائده سعيدين،وفوق بساطه مارسوا الألعاب الرّياضية الشبابية،التي قسمتهم إلى فريقين ،ولكن ليس فيهما من خسر..!! و كلا الفريقين ربحا الحيوية والنّشاط والسّعادة وهما في أحضان البلعاس الدّافئة.
*************************************************
الأصدقاء يمارسون الألعاب التنافسية،بينما ترى الغيوم الخريفية تغطي السّماء..
*************************************************
وبمناسبة غناء الأصدقاء وأهازيجهم،ولأنّ (زينب ) ابنة أختي، وهي ابنة الشاعر الشعبي المرحوم (محمد صادق حديد) ..
*************************************************
شاعرالبادية محمد صادق حديد ووالده أبو محمد رحمهما الله،يتغنّيان بجبل البلعاس وروابيه..أخذت الصورة في بيتنا بقرية بري الغربي..
*************************************************
قد رافقتنا في مسير اليوم السّعيد سوف أختم مسير اليوم بهذه الأبيات التي غناّها مطربنا الرّاحل عن البلعاس وروابيه،والتي نرى من معانيها مدى تعلّق النّاس ومحبتهم لجبل البلعاس،لذلك ردّدوا ذكره،وغنّوه في تراثهم الشعبي السلموني..حيّوا معنا شاعرنا الرّاحل وترّحموا عليه لأنّه أنشد وغنّى في البلعاس أجمل الأبيات حين قال:
يهل البلعاس ما أعلى روابيك == ضنتني وصارت قدامي روابيك
يادمع العين محبوبي روى بيك== الصحارى ونبتت الصحرا عشاب
ومنه أيضاً:
لمّا جوطر ضعنهم سرى == شرّق على البلعاس
خلّف بقلبي الرّشى == والشيب ملاّ الرّاس
وأخيراً:
يهل البلعاس لجيلك ورودك == واقطف من نسل خدّي ورود لك
غدير المي يامطيّب ورد لك == هجين وكلّ وردة تشوف الحباب
أيّها الأصدقاء على دروب المسير،أودعكم، على أمل أن نلتقي بكم في المسير القادم، مع تمنياتنا للجميع أوقاتاً طيبة.
الكاتب حيدر حيدر
سلمية في /28/10/2010/