للفناء الصوفي معنيان:
1 ـ معنى أخلاقي عام يتحقق بفناء الصفات المذمومة، مما يدل ضمناً على الاتصاف بالصفات المحمودة والبقاء فيها، من خلال المجاهدة والرياضة الصوفيتين.
2 ـ معنى صوفي خاص يتمثل بفناء الصوفي عن نفسه وعن الإحساس بالغير عبر الاستغراق التام في الله سبحانه والتحقق في البقاء في وجود الحق حالاً وشهوداً، وهو ما يعبر عنه بالفناء الذاتي.
ولكي يحقق الصوفي فناءه الذاتي لابد من تحققه أولاً بالفناء الأخلاقي. وهكذا يتبين الترابط الوثيق بين الفناءين، أو بين نهجي الصوفي في التجربة الصوفية، هذا من جانب، ومن جانب آخر، يلاحظ الترابط الوثيق بين مصطلح الفناء ومصطلح البقاء في التجربة الصوفية. مما يعني في الوقت نفسه اقتران الحديث عن الفناء بالحديث عن البقاء كدلالة على كون الفناء مرحلة ناقصة، تكتمل بالبقاء، وبهما معاً يخلص الصوفي للوحدانية وتصح العبودية. وعلى كون الفناء دلالة للصوفي والبقاء دلالة للحق. لذا قيل: (مَن قال "به" أفناه عنه، ومَن قال "فيه" أبقاه له).
ولذلك كله، أصبح الفناء تجربة فعلية وحالة شخصية، تشير إلى فقدان الشعور بالذات الشخصي ( = الأنا) و( = الأنت)، والاستغراق بالذات الكلي ( = الهو) والبقاء به. وعليه فالفناء هنا لا يعني دلالة الموت كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه يعني في الوقت نفسه، دلالة وجود النفس والخلق برغم الفناء عنهما، ودلالة الغفلة عن الإحساس بالنفس والخلق فيه.
وما يترتب على ذلك من تقرير أن الوجود المتعين ( = الصوفي) هو وجود ـ لفناء، وكون الفناء الصوفي هو فناء ـ لوجود، بمعنى فناء لبقاء لذا صارت التجربة الصوفية في حقيقة الأمر متضمنة ناحيتين: ناحية سلبية في اقتصارها على الفناء، وناحية ايجابية، وهي الفناء. وعندها يغدو الصوفي الفاني عن نفسه باقياً بالله ولا ريب.
ومن تأمل الموقف الصوفي للفناء يلاحظ تضمنه نظرات عدة متمايزة في ما بينها، فنظرة تحدد للفناء الصوفي مراحل خمساً كونها علامات للفاني مرتبطة بالذكر، وهي نظرة السراج. ونظرة ترد هذه المراحل إلى ثلاثة مدارج وهي نظرة القشيريز اضافة إلى ذلك فقد عبر عن لافناء بمصطلح التوحيد وكأنهما مصطلحان مترادفان، حيث تمثل هذا التعبير بمظاهر ثلاثة:
الأول: الفناء عن عبادة السوى، هو التوحيد الارادي، للدلالة على فناء الارادة الصوفية في الاردة الإلهية، وهو فناء النوري والجنيد.
والثاني: الفناء عن شهود السوى هو التوحيد الشهودي للدلالة على تجلي الحقيقة الإلهية للفاني عبر شهود الوحدة الإلهية في حال غيبة تامة عن الحس، وهو فناء البسطامي.
والثالث: الفناء عن وجود السوى هو التوحيد الوجودي للدلالة على كون الوجود الحقيقي لله عزوجل وكون الخلق مظاهر تجلياته وظواهر صفاته وفيوضاته، وهو فناء ابن عربي وابن سبعين ومَن اتبع نهجيهما.
ويعد البسطامي (ت 261هـ) أول مَن تكلم في الفناء بمعناه لاصوفي. وأول واضع لمذهب الفناء في التصوف الاسلامي. ويعد أبو سعيد الخراز (ت 279/ 892هـ) أول مَن تكلم في علم الفناء والبقاء في التصوف الاسلامي.
علاوة على ما سبق، فقد عبر عن الفناء في الفكر الصوفي بمصطلحات الفكر والصحو وإن اختلفت مدلولاتها حيث نوعية الحالة وشدتها إذ يعد فناء البسطامي والحلاج فناء في حالة سكر، تمحى فيه لاصفات البشرية، وترفع الحجب بين الصوفي وربه، ويفقد الحس ويغيب عن الوعي بالذات وبالعالم مستغرقاً بالكلية في اللامتناهي، وخاضعاً لغلبة أحوال الجذب والوجد. ويعد فناء الجنيد فناء في حال صحو حيث بقاء الذات بفناء الصفات وادراك للنفس وللعالم مع النظر إليهما بعين الفناء، إذ البقاء لله وحده، فلا مجال هنا لاظهار المواجد.
ويلاحظ انضواء الفناء والبقاء في تجربة التستري الصوفية تحت مصطلح الذكر، حيث يرد الفناء فيه بمعنى التخلص من الفردية ( = الانية) المقيدة المحدودة، ليتحقق القرب المباشر مع الله سبحانه ( = اللامحدود)، ويرد البقاء بمعنى اكتساب الصوفي لأعمق شعور وأوسع معرفة وأثبت احساس بحضرة الله سبحانه. والتستري يؤكد ذلك ويحققه على وفق مبدأ الميثاق القديم.
ويلاحظ كذلك تعبير محمد بن عبدالجبار النفري (ت 354/ 965هـ) عن مصطلح الفناء واصفاً إياه بأدق وصف عبر مصطلح الوقفة، وبه يصبح الفاني هو الواقف، وهو مضمون تجربته الصوفية. فأفرد له مؤلفاً خاصاً يعرف بـ(المواقف)، كدلالة على وقفة التستري أمام الله وموافقته سبحانه معه حسب أحواله. وعليه فالوقفة التسترية هي (الانقطاع عن الطلب) والواقف هو التستري (المنقطع عن الطلب لفنائه في المطلوب).
وجدير بالاعتبار أيضاً الشعور الصوفي في مدرج الفناء، حيث يمكن معاينته كملء تارة، وتارة كخلو من أي شكل أو صورة، وهو مدرج تسقط فيه ثنائية الذات والموضوع بتحقق وحدة شاملة مفنية لهما من جانب، ويفنى فيه الشعور عن نفسه وعن الخلق وحتى عن فنائه عن شعوره بأنه فانٍ أي فناء عن الفناء من جانب آخر، للتحقق بالعدم على نحو شعوري باطن بحيث لا يبقى شيء في بصره وبصيرته، اضافة إلى ما يصحب شعور الفاني من حالات قلق شديدة، لأن الفناء والقلق كلاهما يكشف عن العدم ( = اللاتعين) بسقوط الأشياء عن البصر والبصيرة، وعندها يصبح الفاني لا تعيناً صرفاً وفناء مطلقاً ويصبح الفناء تعبيراً عن الأحدية الفردية. ولكنه لا يحدث دفعة واحدة، وإنما يحدث على مراحل متمايزة، حددها ابن عربي بست درجات متوالية في هذه، العملية الخاصة باللاشعور المميزة للفناء، علماً أن التعبير عن الفناء الصوفي قد تم أيضاً من خلال لغة الشطح في الفكر الصوفي، المتحقق لدى البسطامي، من جانب، وباللغة الرمزية المتحققة لدى فريد الدين العطار (ت 586/ 1190هـ) في منظومته المسماة (منطق الطير) حيث اتخذ من الخرافة المروية على ألسنة الحيوان والطير مغزى لشرح أحوال الطريق الصوفي وما يحفه من مخاطر، وأشواق السالكين إلى الفناء، من جانب آخر.
بائعة الكبريت