لم أره ولم أعرفه من قرب. قرأته كما قرأه الآلاف من القراء العرب، شاعراً متمرداً، غريباً، عصياً على التجنيس والقولبة. وقد ظل كذلك حتى رحيله في الثالث من نيسان (أبريل) 2006.
ثلاثة دواوين شعر فقط لا غير، هي كل ما كتبه محمد الماغوط في مسيرته الشعرية. ولكنها كانت كافية لتنقش اسمه على حجر نافر في المشهد الشعري العربي.
لم يكتب كما كتب أحد قبله. وربما هذا ما جعله ينتزع مكانته الكبيرة. إضافة إلى مفردة الحرية التي أصبحت ملتصقة به حتى التوأمة.
ربما لا يوجد في الغرب شاعر يمكن مقارنة محمد الماغوط به سوى رامبو، الذي اعتزل الشعر وهو في العشرين من عمره. فمحمد الماغوط اعتزل الشعر بعد ثلاثة دواوين شعرية فقط، كان آخرها في العام 1970، بعد أن صدر ديوانه «الفرح ليس مهنتي».
كان من قبل أصدر ديوانيه الشهيرين «حزن في ضوء القمر» و «غرفة بملايين الجدران» في العامين 1959 و1960.
ثلاثة دواوين شعرية فقط، جعلت من محمد الماغوط الرائد الحقيقي لقصيدة النثر. حتى حين أعاد شعراء قصيدة النثر تجميع صفوفهم في السبعينات من القرن الماضي، لم يتمكنوا من تجاوز محمد الماغوط. لم يذكروه. حاولوا تجاهله أو نسيانه. لكنه كان سبقهم في اعتزال الشعر ونسيان نفسه. وتفرغ لكتابة المقالات (أصدر أربعة كتب)، والمسرحيات والأفلام بالتعاون مع الفنان دريد لحام، إلى أن فاجأته جائزة العويس قبل سنة ونيف من رحيله، وبعد ما يقارب العشرين عاماً من الوحدة - رحلت زوجته الشاعرة سنية صالح سنة 1985 - في منزل متواضع بالكاد يتسع لجسده، فكيف لأحلامه؟
لم يكن ابن السلمية في محافظة حماه السورية، على بوابة الصحراء، يدرك أن بضع قصائد في الخمسينات من القرن الماضي، ستجعل منه أباً شرعياً لمدرسة جديدة واتجاه جديد، ورؤية جديدة، وشكل جديد في كتابة الشعر العربي. وهو الذي كان كغيره من أبناء جيله مندفعاً إلى التغيير والحرية، فأنتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وسجن لذلك في سجن المزة الشهير. لكنه يقول ساخراً متهكماً في آخر حياته: انتميت إلى ذلك الحزب لأنه كان يوجد في مقره مدفأة!
ذلك هو الشاعر القروي الحالم والمتمرد، فاتح العاصمة بأحلامه وطموحاته ومشاريعه التي واجهت القمع منذ بدايتها، فاختارها السجن حاضناً لتموت خلف القضبان.
بعد خروجه من السجن ذهب إلى بيروت، وانضم إلى أسرة مجلة «شعر»، لكنه لم يعمر فيها طويلاً.
ولكن، لماذا توقف محمد الماغوط في آخر الستينات عن الشعر؟ هل كانت تجربة مجلة شعر سبباً؟ هل اكتشف أن هنالك من أراد توظيف عفويته في سياقات أخرى لم يكن يعرفها من قبل؟ هل رأى أن الشعر لا يوازي ما يختزنه من أحلام وطموحات وآمال، فاتجه إلى المسرح والمقالة المباشرة؟
أسئلة كثيرة تظل معلقة، لكنها مشروعة حتما، في ظل وجود عبقرية مثلها محمد الماغوط في مرحلة مبكرة.
ولكن ما ينبغي لنا التوقف إزاءه في هذه الذكرى، هو بعض الهواجس التي كانت تلح على قصائد محمد الماغوط، وفي مقدمها، شعوره بالضياع والتشرد والغربة، وهو ما جعل مفردات مثل الصعلكة والأرصفة والشوارع والخوف، قواسم مشتركة في الكثير من قصائده. يقول في قصيدته «تبغ وشوارع»: «سامحيني، فأنا فقير وظمآن/ أنا إنسان تبغ وشوارع وأسمال». وفي قصيدة أخرى: «أناشدك الله يا أبي/ دع جمع الحطب والمعلومات عني/ وتعال لملم حطامي من الشوارع».
كانت البداية من الانفصال الأول، الانسلاخ عن الأصل، القرية - السّلمية - التي عرفت طفولته وصباه الأول. كانت أحلام الفتى «القرمطي» أكبر من أن تستوعبها قرية صغيرة على بوابة الصحراء، بينما العالم الجديد في المركز يصرخ داعياً الماغوط وأمثاله المتمردين. في هذه الحال، فإن السِّفر الأول في كتاب الحرية، يتعين في التمرد على القبيلة وعلاقاتها التي مثلتها القرية، فكانت دمشق.
ولأن الشعر حينها كان ثانوياً جداً في قاموس الثورة والثوار والنضال والمناضلين، كان لا بد لمحمد الماغوط من وسيلة تشعره أنه جزء فعال ورئيس في عملية التغيير والتحديث، في الانتقال بالبلاد والعباد من طور التخلف والقبلية والعشائرية والإقطاع والعبودية والاستعمار الأجنبي، إلى مجتمع عصري يحترم الإنسان ويحقق كينونته الفردية والجمعية معاً. فلا توجد أوطان من دون كيان إنساني مكتمل حر في التفكير والاعتقاد والنشر وإبداء الرأي والمشاركة.
لكن الماغوط الذي وجد موقعاً له في الحزب السوري القومي الاجتماعي، فوجئ بنفسه التواقة إلى الحرية والانعتاق من أسر الموروث الثقيل، فوجئ بنفسه في زنزانة في سجن المزة، لسبب بسيط جداً، هو إيمانه بحرية التعبير والمشاركة في بناء وطن منهك، ونقله من الظلمات إلى النور!
كانت المدينة أخذت تتكشف أمامه بعلاقاتها الملتبسة، وأخذ يتلمس وحدته شيئاً فشيئاً، إلى أن أدخل السجن. وحين خرج لم يتمكن من البقاء في المدينة التي ظن أنها تتسع لأحلامه وهواجسه. كما كانت بيروت في ذلك الوقت تعيش صعود مجلة «شعر» الجديدة، فانتقل إلى بيروت، وأصبح واحداً من أهم كتاب مجلة «شعر»، وتعرف إلى أهم الشعراء والكتاب والمثقفين اللبنانيين في ذلك الوقت.
ربما شهد بعض الاستقرار خلال زواجه من الشاعرة سنية صالح، لكن رحيلها المفاجئ في العام 1985 أيقظ وحدته وغربته دفعة واحدة. خصوصاً بعد أن عاش تلك التجارب السياسية والعسكرية كلها، الانقلابات والانقلابات المضادة، الهزائم العسكرية المتوالية، بدءاً من العام 1948 وليس انتهاء بالعام 1982.
توجه إلى المسرح، ووجد ضالته في الفنان دريد لحام، والمخرج اللبناني المبدع يعقوب الشدراوي. ثم كتب المقالات السياسية المتمردة. إلى أن استقر وحيداً تماماً في صحة لا يحسده عليها أحد، وفي بيئة لا تناسب إلا جوالاً متعباً من السفر والترحال، تكفيه مساحة من الأرض بمقدار جسده.
لكن أكثر ما يلخص روح الماغوط، ويكثفها، تلك القصيدة التي كتبها في وداع دمشق، واشتهرت باسم «حزن في ضوء القمر». وفيها يكثف الماغوط أحلامه ورغباته، ويرسم صورة بالأبيض والأسود للراهن الذي وصل إليه، واكتشف أنه مغاير تماماً عندما جاء دمشق باحثاً عنه. ولعل هذه الوداعية تحديداً، هي ما ينبغي لنا أن نختم به هذا الاحتفاء المتواضع بشاعر متمرد خارج من عباءات القبائل والميراث الثقيل، وجد نفسه يغرق في مستنقع أكثر عفونة، وفي قيود أشد وأقوى وأثقل حول الروح الهائمة المحلقة في فضاءات بعيدة ومغايرة.
«وداعا أيتها الصفحات أيها الليل/أيتها الشبابيك الأرجوانية/ انصبوا مشنقتي عالية عند الغروب/ عندما يكون قلبي هادئاً كالحمامة/ جميلاً كوردة زرقاء على رابية/ أود أن أموت ملطخاً/ وعيناي مليئتان بالدموع/ لترتفع إلى الأعناق ولو مرة في العمر/ فإنني مليء بالحروف والعناوين الدامية».
رحل محمد الماغوط، وهو مليء بالحروف والعناوين الدامية. لم يساوم على فكرة آمن بها. لم يهادن أحداً أو منظومة سلفية أو قمعية. اكتفى بعزلته في زمن القصائد الكذابة والكتابة الناعمة، فاستحق وسام الوحدة والسخرية اللاذعة من حياة لم تكن كما اشتهى أن تكون يوماً أو لحظة في حياته!
يوسف ضمرة
المصدر: الحياة