كيف تحولنا الى فئران تجارب وتحول غذاؤنا الى وقود ومنتجات ؟ فيما نحن منشغلون في الاختلاف على احداث في عمق التاريخ كيف كانت تفاصيلها ، ومن قال ماذا ، واين ، وكيف ، وماذا يعني ..؟! وهل كان هذا على صواب ام ذاك على خطأ .. ؟!
يمر العالم اليوم في مرحلة حرجة غير مسبوقة في تاريخه ليس فقط على مستوى الازمات الاقتصادية والتحولات الكبرى التي بدأت منذ عقود دون ان ندركها ( كعادتنا ) ، بل ان ما يجري في العلم بشكل متسارع سيتسبب بازمة اخلاقية ووجودية تهدد كل النظريات والقواعد التي نشأ عليها الإنسان منذ وجوده على سطح الارض حتى اليوم بالانهيار.
من "دولي" الى عصر "المسوخ البشرية"
وما نسمع عنه بالكاد في وسائل إعلامنا وهو وغائب كليا عن مجالسنا وعن دوائر الحوار والنقاش في بلداننا ، ما بات يعرف بعلوم "علم الجينوم البشري" و " الهندسة الوراثية " ، كلمات للذين يعرفون عنها يمكن ان يستذكروا من خلالها "النعجة دولي" التي تم استنساخها في العام 1996 واثارت ضجة كبيرة في ذاك الوقت ولا اذكر اذا كنا قد تظاهرنا او لم نتظاهر احتجاجا على عملية "الاستنساخ" تلك ( لان هذا الذي نحن فالحين فيه ) .. وساد من ذاك الحين نوع من الصمت اوربما التعتيم المتعمد حول الموضوع ، لكن الابحاث وتطور هذا العلم المثير للجدل لم يتوقف على الاطلاق ..
العلم الذي بدأ في الثمانينيات من القرن الماضي ووصل الى القدرة لاستنساخ كائن حي على مبدأ وجود خليتين الاولى متلقية ( بويضة ) والاخرى مانحة ( جنينية ) ، قد تطور ودخل اليوم في طوره الثاني ، وشهد السنوات الاخيرة نموا "اسيا" متسارع يجب ان ندركها ونترقب نتائجها بدقة.
حياة بدون "ذكر وانثى " ..
طبعا لم تكن دولي اخر عملية استنساخ حيواني ، ولكن الاهم من ذلك ما تم التوصل اليه في السنوات الاخيرة خلال السباق المحموم في تطوير هذا العلم ، وهو اتمام عملية استنساخ الخلايا دون الحاجة الى بويضة او خلايا جنينية ، حيث اصبح ممكنا من خلال تقنية تعتمد على البروتينات تحويل أي خلية جلدية بشرية ، على سبيل المثال ، لتصبح مشابهة بالكامل للخلايا البشرية الجينية.
وهذا يعني ان نظرية "الذكر والانثى" التي اعتمدت عليها قصة الوجود والتكوين في اذهاننا لم تعد هي الوحيدة اليوم، وقد بدأ العلماء اليوم بالفعل بتنمية او "خلق" بعض الانسجة البشرية خارج الجسم البشري لتطعيمها جراحيا في سبيل علاج بعض الامراض المستعصية وقد نجحوا في ذلك الى حد الان.
واستنساخ اعضاء بشرية خارج الجسم البشري
واذا كانت هذه البدايات فان معلومات ضئيلة فقط تصلنا عن الأبحاث المتطورة التي بدأت قبل سنوات وهدفها بناء اعضاء بشرية خارج الجسم وقد بدء بالفعل بمثل هذه التجارب لبناء قلب من قلب الفرد نفسه ، أي نسخة سليمة من قلب المريض نفسه ، خارج جسمه.
تجديد الشباب وخلق "بدئل بشرية".. بات في حكم الممكن
ويقسم وليم هاسلتاين الرئيس التنفيذي لشركة علوم الجينوم البشري ( وهي شركة تستثمر في صناعة الادوية العضوية ) تطور علوم الجينوم الى اربعة اطوار ، يقف العالم اليوم على اعتاب الطور الثالث الذي اطلق هليه "هاسلتاين" اسم طور "تجديد الشباب" حيث سيصبح بالامكان استبدال كل خلية من خلايا الانسان ، وخلق الاعضاء البشرية المتجددة من الاعضاء البشرية المعمرة ( اذا صح التعبير ) ويقول هاسلتاين بانه سيكون من المألوف في العقود القادمة ان يعيش الانسان 120 عاما واكثر.
الطور الرابع و هو الطور الذي ستكون احداثه ابعد مما يستطيع المرء اليوم عن تخيله هو طور اطلق عليه اسم" تسخير المواد" ، سيكون بمقدور العلماء تطوير بدائل بشرية وهندسة خلايا وانسجة واعضاء جديدة ( يعني حسب الطلب وليس بالضرورة تشبه المكونات البشرية ) ، وستكون هذه الخلايا والانسجة والاعضاء قادرة التكامل والالتئام مع اعضائنا الطبيعية دون ان تخلف أي ندبة تذكر.
عصر المسوخ البشرية
اذا اصبح الواقع يسبق الخيال ، والحديث عن تكوين مسوخ بشرية او كائنات بموصفات خاصة تمتزج فيها القدرات البشرية المعروفة مع قدرات لكائنات اخرى اصبح امرا واقعا.
ولعل ما يتسرب احيانا وسائل الاعلام بشكل خجول يمكن ان يعطينا فكرة عن مدى عمق التغير القادم ، فقد نشرت صحيفة نيوزويك في عددها الاخير مقالا بعنوان " حرب الخلايا الجزعية انتهت " وطبعا انتهت لصالح اصحابه ( للخلايا الجزعية ) ويتصدر وسط المقال صورة لرأس بشري داخل رأس بقرة ، للدلالة على الازمة السياسية التي عصفت ببريطانيا في نيسان الماضي عندما تم الاعلان عن نية احد العلماء لزرع حمض الـ"دي ان ايه" في خلية بويضة بقرية ، متهمين العلماء بانهم يرغبون في اطلاق حقبة جديدة من "الهجائن البشرية الحيوانية الغريبة".
تم تجاوز الازمة من خلال تطوير عملية الاستنتساخ وتجاوز الحاجة الى خلاية البويضة كما ذكرنا ، وابتعاد العلماء عن استخدام كلمات مثل " مستنسخ ، وجنين .. " لتجنب استثارة ردود عاطفية قوية ..
"هجين انسان فأر " ..؟!
ولكن من حيث النتيجة فان هذا العلم يمضي بسرعة لتحقيق فتوحات علمية غير مسبوقة ستغير وجه العالم.
وعند قراءتي لبعض المراجع ذات الصلة لم يكن هناك أي حرج مثلا من خلال عرض بعض الرسوم التوضيحية من استخدام عبارات مثل ( فأر / انسان ) للدلالة على فأر تم حقنه بعناصر بشرية.
ورغم انه لا خلاف على ان الموضوع له الكثير من الايجابيات التي من الممكن ان تكون هي الحل الوحيد للازمات الكبيرة التي يعيشها العالم على مستوى الطاقة والبيئة ، او على مستوى العلاج من الامراض المستعصية والوقاية من عوامل الخطر التي يمكن ان تؤدي الى الوفاة.
ولكن هناك الكثير من الغموض والضبابية في كيفية ايجاد الضوابط والمحددات لهذا العلم الذي سيؤثر في كل قطاعات الحياة واذا كان اليوم يتم الاعلان عن بعض التطبيقات المفيدة مثل تصنيع الادوية العضوية او بعض المواد المعالجة بالبكتريا والوقود الحيوي الكامل الاحتراق ، فانه ما الضمانات التي لدينا لعدم وجود من يعمل حاليا في الاتجاه المعاكس من اجل تصنيع المسوخ او تميز بعض البشر عن البعض الاخر او السعي لامتلاك وسائل السيطرة والتفوق لشعب على الشعوب الاخرى.
والحقيقة ان هذا ممكن جدا وخاصة مع تسرب بعض المصطلحات مؤخرا مثل مصطلح "تحليل النسل" ، وهو علم يسعى الى جعل الناس قادرين على اختيار الصفات الحيوية لابنائهم وجعلها افضل بصورة مستمرة.
في ايلول الماضي تم نشر اول تسلسل كامل للجينوم البشري* ، وهو سلسلة طويلة من ما يعرف بالحامض النووي DNA تبلغ طولها 6 مليارات من المواد كيميائية المركبة للحمض النووي ، والمهم في الموضوع ان تحديد التسلسل الجينومي سيكون ممكنا خلال السنوات القليلة القادمة لاي شخص ، وهذا التسلسل يساعد على تحديد مكامن القوة والخطورة في جسمنا.
فمثلا يمكن ان يتم تحديد فيما اذا كان الشخص عرضة للاصابة بنوبة قلبية او قابلية جسمه للتعامل مع مجموعة من القضايا مثل التواجد في اجواء ملوثة او قدرة جسمه على استقلاب الكافيين وتحليل السموم .. الخ.
سيؤمن هذا التحليل معلومات رائعة ليحدد كل منا نمط الحياة الذي يناسبه اكثر ويبتعد عن كل مامن شأنه ان يشكل خطورة على حياته.
من المستفيد من العلم الجديد .. ؟
ويبقى السؤال من هو المستفيد من نتائج هذه العلوم ، وكم تكلفة هذه الخدمات ومن سيكون قادرا على الحصول عليها ، والسؤال الأهم والذي طرحته اكثر من مرة خلال المقال من سيتحمل وسيجد الحلول للمشاكل الأخلاقية التي يمكن ان تنشأ كنتيجة حتمية لتطور هذه العلوم.
فعلى سبيل المثال من سوف يضمن عدم استخدام تحليل الـ دي ان ايه للتميز ضد بعض البشر ممن يمتلكون امكانيات اقل من غيرهم في التوظيف مثلا ، او الامتناع عن التأمين على حياتهم او الحصول على الرعاية الصحية ، بعد اكتشاف مكامن الخطورة عند بعض الافراد ؟؟
واذا كانت هذه التأثيرات ستكون محدودة ومقتصرة على بعض الشعوب ( التي تحصل على الرعاية الصحية اصلا ) فان هذه الازمة تمتد الى ابعد من ذلك ؟
فضلاتنا ستتحول الى "وقود" ولكن هل سيبقى لنا ما نأكله ..؟؟!
المشكلة في الموضوع هو ان الذي يمتلك ناصية وضع الرؤية المستقبلية للعالم في ظل هذه التطورات هم العلماء الذين يمضون قدما بهذا العلم، ورؤاهم هي اشبه بنشرات ترويجية يظهرون من خلالها كل ماهو جميل ، على غرار حياة افضل ، بيئة نظيفة ، مصادر الطاقة المتجددة.. الخ.
وطبعا فان رأس المال المستثمر في مثل هذه الابحاث يزداد يوما بعد يوم ، وتحالف المصالح المشتركة يخلق قرارا سياسيا داعما لهذا النوع من التطور ، والمساحات التي تزرع بالذرة وسكر القصب للحصول على الوقود الحيوي تزداد على حساب الأشجار المثمرة وحقول القمح لتأمين الغذاء للبشر.
تمسكوا باراضيكم انها "ثروة" العالم القادم .. ؟
اكثر من ذلك فقد امتلك العلماء ليس فقط استخدام الاحياء الدقيقة مثل البكتريا لاجراء عمليات تحويل مطلوبة مثل تحويل السكاكر الى وقود ، بل استطاعوا ان يصنعوا انواع جديدة من البكتريا تقوم بوظائف دقيقة وتحول مواد محددة الى منتجات صناعية
وهكذا سيزيد الطلب بشكل محموم على بعض المنتجات الغذائية ليس فقط لاستخراج الوقود الحيوي بل لتصنيع طيف واسع من المواد الصناعية على حساب غذاء البشر ، وسينشأ النزاع على الأراضي التي ستكون مصادر الطاقة و ستشكل المواد الخام الأكثر اهمية للصناعات الجديدة وسيضيق العالم علينا بحيث من الممكن الا نجد اراض كافية لانتاج غذاء يؤمن كفاية البشر.
صحيح ان علم الجينوم يساعد في تحسين المنتجات الزراعية وخلق منتجات هجينة يمكن من خلالها التغلب على مشاكل الجفاف او القلة او حتى مقاومة الغمر والفيضانات ( مثل الرز في شرق اسيا) ، ولكن ليس هناك أي ضوابط او تصور واضح لقواعد يمكن ان تكنه الاستحواذ على المحاصيل الزراعية ومعالجتها بالكائنات الحية المصنعة لتحويلها الى وقود او منتجات صناعية وليس غذاء للبشر.
ولاوضح الفكرة اكثر ، سأشير الى شركة تدعى "دوبون" في احد الولايات الاميركية ، انشأت صوامع عملاقة تستخدم البكتيريا المعدلة ( او المصنعة ) من خلال الهندسة الوراثية لتحويل السكر الى مادة تدعى "البروبانيدول" وهو مكون اساسي في منتجات تصنعها الشركة مثل السجاد والملابس المقاومة للتلوث والتلطيخ.
طعام الفقراء .. زينة لمنازل الأغنياء .. وفي ذات السياق فانه لا يوجد أي ضوابط لاستخدام الوقود الحيوي الذي ينتج على حساب غذائنا في سد الفجوة الحاصلة في الطلب على الطاقة للنشاطات الحيوية والأساسية ، فقط رصدت خلال تجولي على بعض مواقع الانترنت منتجات ترفيهية مثل موقد بدون مدخنة يمكن وضعه في أي ركن من البيت يعمل على الميثانول.
باختصار يمكن القول بان الموضوع كبير وهام وهو لا يعني فقط الدول المتقدمة ، لاننا على الاغلب سنكون الضحية او في احسن الاحوال الوقود الذي ستتغذى عليه باقي الشعوب التي تمتلك ناصية العلم الجديد ، فيما لا نعرف ماذا سوف نواجه بالتحديد ، مسوخ بشرية ، بشر محسّنين ومتفوقينا علينا . .
من الممكن يمتلكوا القدرة على الطيران في حال تم استنساخ الاجنحة من الطيور ودمجها في الجسم البشري، او من الممكن ان عزل العوامل او الجينات التي تساعد الحيوانات على التنبؤ بقدوم الزلازل ، ونزرعها بالبشر ليفروا في الوقت المناسب .. ؟!!
هذا ناهيك عن التشوه الأخلاقي و"القيمي" الذي سوف ينتشر ويقلب كل القواعد والاعراف في العالم ، فمن خلال هذا العلم سيتمكن المثليين على سبيل المثال من انجاب الاطفال الذين يحملون مورثاتهم ويمكن ان يختاروا لهم صفات الحيوية ، و يصبح ممكنا ان تتضمن خانة الجنس في الهوية على سبيل المثال : ذكر ، انثى ، نص نص ..
او ربما توضع في خانة العلامات المميزة : عين ثالثة في الجبهة او في مؤخرة الرأس .. ؟؟!
اما نحن في دول العالم الثالث ( وما دون ) فقد وجدت في بحثي هذا ، تطبيقات عملية قد تنفع للشعوب التي ننتمي اليها ، فقد تمكن احد العلماء ( يدعى كين نيلسون ) في احد المعاهد في الولايات المتحدة على تطوير "خلايا وقود بكتيرية" وذلك من خلال معالجة بعض انواع البكتيريا لفضلات الانسان ، وما علينا الا ان نخلف ونزرع هذه البكتريا في امعاء شبابنا ونجلسهم على البراميل ، ونصبح وحدات متنقلة لانتاج الوقود ونحل بهذا مشكلة تحديد النسل ، بعد ان تصبح عائلاتنا حقول وقود حيوي يقاس التميز فيها بوحدة ( برميل/الفرد ) ونودع "الريجيم" الى الابد ورفع شعار " اكل اكثر نحو انتاج وفير "..