طب الأئمة (عليهم السلام)
برواية أبي عتاب عبدالله بن سابور الزيات
والحسين ابني بسطام النيسابوريين
وضع المقدمة
العلامة السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان
بسم الله الرحمن الرحيم
اهتم أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بمعالجة الجسد كاهتمامهم بمداواة الروح، فكانت عنايتهم في صحّة الأبدان كعنايتهم في تهذيب النفوس.
فهم أطباء الروح والجسد، وقد رجع إليهم جماعة المسلمين يستوصفونهم لأمراضهم البدنية، كما كانوا يرجعون إليهم في شفاء أمراضهم الروحية، وهذه جوامع الحديث مملوة بشواهد ذلك، فلم يكونوا(عليهم السلام) مبلغي أحكام وأئمّة تشريع فحسب، بل كانوا قادة أولوا عنايتهم المسلمين، يهمهم صحّة أبدانهم وأديانهم ـ إن صحّ التعبير ـ على السواء حتّى حثّوا على تعلم الطبّ، وقرنه أميرالمؤمنين(عليه السلام)بعلم الفقه في كلمته الجامعة في تقسيم العلم قال(عليه السلام): «العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطبّ للأبدان، والنحو للّسان، والنجوم لمعرفة الأزمان»(1).
ولقد ورد عنهم(عليهم السلام) في جوامع الطبّ وحفظ الصحّة كثير، كما ورد عنهم وصف العلاج بأنواعه أكثر، وللتيمن بذكرهم(عليهم السلام) نقدّم للقارئ نبذة يسيرة من أقوالهم الّتي تعتبر قواعد عامة في حفظ الصحّة واعتدال المزاج:
قال أميرالمؤمنين(عليه السلام) لولده الحسن(عليه السلام): ألا اُعلّمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى يا أميرالمؤمنين، قال(عليه السلام): «لا تجلس على الطعام إلاّ وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلاّ وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب»(2).
وقال(عليه السلام) أيضاً: «إنّ في القرآن لآية تجمع الطبّ كلّه (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)»(3).
وقال زرّ بن حبيش: قال أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام): «أربع كلمات في الطبّ لو قالها بقراط وجالينوس لقدّم أمامها مائة ورقة ثمّ زيّنها بهذه الكلمات وهي قوله: توقوا البرد في أوّله، وتلقوه في آخره، فانّه يفعل في الأبدان كفعله بالأشجار، أوّله يحرق، وآخره يورق»(4).
وقال(عليه السلام): «لا صحّة مع النهم»(5).
وقال الباقر(عليه السلام): «طبّ العرب في سبعة: شرطة الحجامة، والحقنة، والحمّام، والسعوط، والقيء، وشربة عسل، وآخر الدواء الكي، وربّما يزاد فيه النورة»(6).
وقال الصادق(عليه السلام): «لو اقتصد الناس في المطعم لاستقامت أبدانهم»(7).
وقال(عليه السلام) أيضاً: «ثلاث يسمن وثلاث يهزلن، فأمّا الّتي يسمن فادمان الحمّام، وشم الرائحة الطيبة، ولبس الثياب اللينة، وأمّا الّتي يهزلن فإدمان أكل البيض والسمك والضلع، أي امتلاء البطن من الطعام»(
.
وحدّث أبو هفان ـ ويوحنا بن ماسويه الطبيب النصراني الشهير حاضر ـ ان جعفر بن محمّد(عليه السلام) قال: «الطبائع أربع: الدم وهو عبد وربّما قتل العبد سيّده، والريح وهو عدوّ إذا سددت له باباً أتاك من آخر، والبلغم وهو ملك يدارى، والمرة وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها» فقال ابن ماسويه: أعد عليَّ فو الله ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف(9).
وقال الصادق(عليه السلام): «انّ المشي للمريض نكس، انّ أبي كان إذا اعتل جعل في ثوب فحمل لحاجته ـ يعني الوضوء ـ وذاك انّه كان يقول: ان المشي للمريض نكس»(10).
وقال الكاظم(عليه السلام): «ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم، فانّه بمنزلة البناء قليله يجر إلى كثيره»(11).
وقال أيضاً: «الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء وعوِّد بدناً ما تعوّد»(12).
وقال أبو الحسن(عليه السلام): «ليس من دواء إلاّ ويهيج داءاً، وليس شيء في البدن أنفع من امساك البدن إلاّ عمّا يحتاج إليه»(13).
وقال الرضا(عليه السلام): «... ولو غمز الميّت فعاش لما أنكرت ذلك»(14).
وقالوا(عليهم السلام): «اجتنب الدواء ما احتمل بدنك الداء، فإذا لم يحتمل الداء فالدواء»(15).
فهذه اضمامة من بعض ما ورد عنهم(عليهم السلام) فيما يتعلق بالطبّ، وانّها لتجمع الاُصول العامّة والاُسس الّتي يقوم عليها حفظ الصحّة.
فالتحذير من النهمة الّتي هي أساس الداء، والاقتصاد في المطعم بحدود استقامة البدن واحتياجه، والالتزام بالراحة والهدوء بعد الابتلاء بالمرض، والحمية واعطاء البدن عادته، والتحذير من استعمال الدواء بدون حاجة، وعندها بأكثر من الواجب وبيان طبائع البدن وعناصره المقوّمة، بل وحتّى الإشارة إلى الطبّ الرياضي أو فقل التنفس الصناعي وغير ذلك هي نصائح طبية عامة يمكن الجزم بأ نّها لا تخص فرداً دون آخر، أو بلداً دون بلد، أو عصراً دون عصر آخر.
وهناك مستحضرات طبية ووصفات علاجية بنسب معينة وكيفيات خاصة اشتمل عليها الطبّ المروي عنهم(عليهم السلام) في كتابنا هذا وغيره يمكن القول بانّها ربّما كانت مختصة بأحوال خاصة، وملاحظة حال المريض وطقس بلده والتربة الّتي يعيش فيها، إذ يمكن أن تكون الاجابة صدرت من أحدهم(عليهم السلام) على سؤال المريض وعلاجه بملاحظة ما قلناه، وهو أمر حري بالاعتبار، فانّ اختلاف الطقوس باختلاف البلدان والفصول يستدعي اختصاص العلاج ببعض المرضى دون بعض، فالدواء المستحضر للبلاد الحارّة مثلا لا يصح استعماله بنفس النسبة والكيفية في البلاد الباردة، وبالعكس.
إذن فما يرى من تفاوت بعض الوصفات العلاجية أو الّتي لا يعرف وجهها يمكن أن تكون من هذا القبيل، وقد نص الأعلام من مشايخنا القدماء والمتأخّرين على ذلك، وإلى القارئ بعض بيانهم في المقام.
قال الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه(رحمه الله) (ت 381 هـ): اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطبّ انّها على وجوه:
منها: ما قيل على هواء مكّة والمدينة ولا يجوز استعماله على سائر الأهوية.
ومنها: ما أخبر به العالم ـ الإمام ـ على ما عرف من طبع السائل ولم يعتبر بوصفه إذا كان أعرف بطبعه منه.
ومنها: ما دلّسه المخالفون في الكتب لتقبيح صورة المذهب عند الناس.
ومنها: ما وقع فيه سهو من ناقليه.
ومنها: ما حفظ بعضه ونسي بعضه.
وما روي في العسل انّه شفاء من كلّ داء فهو صحيح ومعناه شفاء من كلّ داء بارد.
وما ورد في الاستنجاء بالماء البارد لصاحب البواسير، فانّ ذلك إذا كان بواسيره من الحرارة...الخ(16).
وقال الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان(رحمه الله) (ت 413 هـ): الطبّ صحيح والعلم به ثابت وطريقه الوحي، وإنّما أخذه العلماء عن الأنبياء، وذلك انّه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلاّ بالسمع، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلاّ بالتوفيق، فثبت انّ طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيات.
والأخبار عن الصادقين(عليهم السلام) مفسّرة بقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وعوّد كلّ بدن ما اعتاد»، وقد ينجع في بعض أهل البلاد من مرض يعرض لهم ما يهلك من استعمله لذلك المرض من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقوم ذوي عادة ما لا يصلح لمن خالفهم في العادة... الخ(17).
وقال الشيخ المجلسي محمّد باقر بن محمّد تقي(رحمه الله) (ت 1111 هـ): وقد يكون بعض الأدوية الّتي لا مناسبة لها بالمرض على سبيل الافتتان والامتحان، ليمتاز المؤمن المخلص القوي الإيمان من المنتحل أو ضعيف الايقان، فإذا استعمله الأوّل انتفع به لا لخاصيته وطبعه، بل لتوسّله بمن صدر عنه ويقينه وخلوص متابعته، كالانتفاع بتربة الحسين(عليه السلام) وبالعوذات والأدعية(18).
ويؤيّد ذلك أ نّا ألفينا جماعة من الشيعة المخلصين كان مدار عملهم ومعالجتهم على الأخبار المروية عنهم(عليهم السلام) ولم يكونوا يرجعون إلى طبيب، وكانوا أصحّ أبداناً وأطول أعماراً من الّذين يرجعون إلى الأطباء والمعالجين.
ونظير ذلك الّذين لا يبالون بالساعات النجومية، ولا يرجعون إلى أصحابها بل يتوكّلون على ربّهم ويستعيذون من الساعات المنحوسة ومن شرّ البلايا والأعادي بالآيات والأدعية أحسن أحوالا، وأثرى أموالا، وأبلغ آمالا من الّذين يرجعون في دقيق الاُمور وجليلها إلى اختيار الساعات وبذلك يستعيذون من الشرور والآفات .
وهناك ناحية اُخرى في كتابنا هذا نسترعي انتباه القارئ إليها، وربّما أثارت فضوله فيتسائل ما معنى ذكر العوذات والأدعية والرقى في هذا الكتاب؟ وأين هذا من طبّ الأبدان؟
ولابدّ من وقفة قصيرة مع القارئ لننظر معاً تأثير ذلك في معالجة الأبدان، فأقول: لمّا كان أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) سموا بعلمهم عن البشر ـ بما للعلم من مفهوم واسع وشامل ـ فكانوا يستندون في ذلك إلى معين لا ينضب حيث أخذوا ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) عن وحي السماء عمّن أوجد الداء والدواء والمرض والشفاء.
فكانوا بلا ريب يدركون داء النفوس كما يدركون أمراض البدن وأعراضه الخارجية، فهم يصفون لشفاء الروح من آلامها المرهقة وأزماتها الخانقة كما يصفون الدواء لسائر أمراض البدن، وإنّ خير الأطباء من قدر على تشخيص الداء وعرف سيره ومبعثه فوصف له علاجه الشافي.
ولمّا كان كثير من الأمراض مبعثها الآلام النفسية نتيجة القلق والحزن والاضطراب والوحشة والخوف وأمثالها، وكان تأثيرها على الجسم نتيجة حتمية، وهذا أمر محسوس ما أظن أحداً منّا ينكره، كيف وها نحن نمر كلّ يوم بتجارب وأزمات تبعث على القلق والاضطراب، وإذا اشتدّ تأثيرها النفسي فنحسّ بعوارضها على البدن كالصداع والحمى وغيرهما من الأوجاع الناشئة عن التوتر العصبي أو انهيار الأعصاب.
فهذه الأعراض والأمراض نتائج حتمية لتلك الآلام النفسية لا انّها تنحصر بها بل لها أكثر من سبب، إذن لا مانع ـ بل من الخير ـ معالجتها علاجاً نفسياً وروحياً لحسم مادة الألم وتطهير مصدره حتّى تخلص النفس من مشاكلها بالدعة والاطمئنان إلى تأثير مدبر في شؤونها عارف بخيرها يرجى منه الصلاح والإصلاح، فتهدأ آلامها وتخلد إلى الراحة ريثما يتم لها الشفاء المتوقع وإذا هدأت النفس واطمأنت، دبت العافية إلى أجزاء الجسم المصابة بسببها نتيجة حتمية أيضاً لها.
وما أظن القارئ ينكر الطب النفساني والروحاني ومدى تأثيرهما في معالجة كثير من الأمراض الباطنية والعقلية بل وحتّى الجلدية والمتوطنة والتناسلية.
وكم قرأنا وسمعنا شواهد على ذلك أقرها العلم الحديث بمفهومه الشامل.
وبعد هذا فماذا على الإمام وهو يحرص على صحّة امرئ مسلم مبتلي بمرض مبعثه ألم نفسي ويزول مرضه بعلاج نفسي أن لا يسعفه بذلك لتعجيل شفائه.
وما عليه وهو يرى عوارض المريض مركبة من آلام نفسية وعوارض بدنية ان يعالج روحه وجسده في آن واحد، فيصف له ما يشفي بدنه من مرضه بمستحضرات العقاقير مثلا، ويشفي روحه ببركة آي من القرآن الكريم أو اسم من أسماء اللهY أو عوذة اشتملت على الاستعاذة بالله جلّ اسمه والتوسّل إليه بملائكته المقربين أو أنبيائه المرسلين أو عباده المكرمين.
وهلم فلننظر في وصفات هذا اللون من العلاج فهل هي إلاّ ما وصفناه. وما الّذي ننكره من الاستشفاء بها وهي عين الشفاء، فالقرآن العظيم فيه من الآي الظاهرة الصريحة بانّه شفاء المؤمنين كقولهU: (يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(19) وقوله جلّ وعلا: (وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلا خَسَاراً)(20) وقوله تبارك اسمه في سورة فصلت: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَـقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أأعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَـنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ)(21).
وفيه من الأمر بالدعاء والاستعاذة كثيراً إلى غير ذلك من آياته الكريمة وأسراره العظيمة الّتي عرفها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) أخذاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن أحد أعرف بأسرار القرآن وموارد بركته منهم، فعلى جدّهم اُنزل وفي بيوتهم نزل، وهم المخاطبون به ولا يعرف القرآن إلاّ من خوطب به.
وقس على الاستشفاء بآي القرآن الكريم الاستعاذة بأسماء الله تعالى والتوسل بها والدعاء إليه طلباً لخلاص الروح من أدرانها وحلاً لأزماتها ومشاكلها وشفاء لآلامها.
وان في الدعاء نفسه بشروطه لراحة للنفس واطمئنانها بالسلامة، ولم يكن مجرد خضوع واستكانة، أو انهزامية من واقع مرير ـ كما يفسر خطأ ـ بل هو رجوع إلى حظيرة نفس الواقع وخلود إلى راحته، ومن منّا ينكر ذلك أو لم تصادفه ولو تجربة واحدة طيلة حياته يفزع عند كلّ مخوف، ويلجأ في كلّ مكروه، ويستزيد من الخير إلى من بيده التدبير والتقدير، يرجو منه النجاة من أزماته، والتخلص من آلامه، والسلامة في راحته.
فلولا إحساسنا بالارتياح النفسي لنتائجه لما أقبلنا عليه واستعملناه دواءاً فطرياً.
والّذي يؤكّد ان تلكم الأدعية والعوذات والاستشفاء علاجات نفسية مضافاً إلى ورودها في القرآن الكريم، هو تعقيبها كثيراً بضمان النجاح عند الاستعمال، وهذا الالتزام بالعافية وضمانها هو وحده خير علاج نفسي يجعل المريض يشعر بالراحة ويتلمس العافية بين أحرف تلك الآي والدعاء والعوذة.