الرئيس غريغوريان
أعضاء الهيئة التدريسية
الطلاب والخريجون
السيدات والسادة
أتوجه إليك بالشكر الجزيل، أيها الرئيس غريغوريان، لكلماتك الكريمة. إنه لشرف عظيم أن أكون معكم في حفل توزيع شهادات الخريجين، إذ أن جامعة براون تمثل الكثير مما هو الأفضل في التعليم الغربي الحر. اسمح لي أيضاً أن أهنىء الطلاب الخريجين الذين ستبقى ذكرى هذا اليوم بلا شك معهم طوال حياتهم.
مما يقال عادة للطلاب الجامعيين في يوم تخرجهم إنَّّّ عليهم الاستعداد لمواجهة "العالم الواقعي". قد يسركم أن لا تسمعوني أقول لكم ذلك، إنما وباعتباري واحداً يعيش ويعمل في العالم الواقعي زمناً طويلاً جداً، أستطيع أن أقول لكم ما يلي: "العالم اليوم شيء مختلف". إنه مختلفٌ عما كان عليه منذ أربعين عاماً، ومنذ خمسة أعوام، بل يختلف حتى عن عالم الشهر الماضي. إنه مختلفٌ لأننا نشهد تسارعاً هائلاً في نسبة التغير العالمي. عالم اليوم هو بيئةٌ حيةٌ عليكم أن تتلاءموا معها بسرعة تفوق بكثير ما كان يفعله آباؤكم، وذلك لكي يكون لكم تأثير إيجابي وبنّاء على المستقبل. بِناءً على هذا القولْ فإن الوسائل المتاحة لكم لتحقيق هذا التأثير قد تضاعفت تضاعفاً كبيراً خلال العقد الأخير. لم تتوفر قبل الآن معلومات بهذه الكثرة عن الشعوب المختلفة هذا الاختلاف؛ كما لم نعرف قبل الآن الكثير عن العالم المادي الذي نعيش فيه؛ لذلك لم تكن الفرص متوفرة قبلاً هكذا لإيجاد حياة أفضل لعددٍ أكبر من الناس في أنحاء العالم. خلال الخمسين سنة الماضية، تجمد كوكبنا جراء دوامة معيقة من السياسة الثنائية القطبين ندعوها الحرب الباردة. خلال تلك السنوات سمح الكثيرون لوجهات نظرهم أن تركد وتتصلب في مفاهيم منحازة حتى أصبحت عقائد لا تقبل الحوار: رأسماليتي ضد شيوعيتك، كتلتكم الشرقية ضد كتلتنا الغربية، واليسار ضد اليمين. ولكن كما هُدمَ جدار برلين، تفككَ نظامنا القديم الثنائي القطبين بين عشية وضحاها، ومعه تفكك العالم الأبيض والأسود الذي عشنا فيه وتعودناه. لسوء الحظ، فإن وجهات النظر، والعادات الفكرية، برغم كونها غير محسوسة، فإنها أصعب تفتتاً من القرميد ومن الشؤون السياسية. فإن السلوك الإنساني المكتسب لا يتلاشى بسهولة.
فقد أصبح العالم مكاناً متردياً يحدث فيه التغيير باستمرار، ونحتاج فيه أن نتعلم مرةً أخرى أن نتطور. وبعيداً عن لعبة شد الحبل المصطنعة، حيث لم يكن أمام الكثيرين إلا الانتظار ليميلوا مع الحبل، بعيداً عن هذا فإننا نواجه عالماً من الشك والتساؤل والحيرة العالمية التي هي السمة الجديدة المميزة لعصرنا. إن الانطلاق من حالة الانفراج الحاصلة في العالم اليوم هو العملية غير الأكيدة وغير المريحة لاكتشاف وتعلم الحيوية والتغيير. ففي كل المجتمعات تُطرح أسئلة مربكة ولكنها سديدة: من سيقود عملية التغيير؟ ما هي المعتقدات التي سترشدنا؟ أهي بيانات ومعطيات عملية، أم رؤى فلسفية؟ ما هي الإحراجات أو الفرص التي ستشكل مستقبلنا؟ ما هي الأولويات التي علينا مواجهتها أولاً؟ ولماذا هي الأولويات؟ إن تقديم إجابات صحيحة عن هذه الأسئلة يجب أن يكون موضوع اهتمامنا جميعاً؛ لأنه إذا لم تأت الردود أولاً من أولئك الذين أسعفهم الحظ منا بما يكفي لتلقي التعليم، الذين حالفهم حظ كاف ليكون لديهم الغذاء والدواء والسكن، الذين استطاعوا أن يحرزوا تقدماً في تقديم هذه الأشياء لمن هم أقل حظاً، إن هذه الردود ستأتي من معارضات المحرومين. وباختصار يجب أن تأتي الردود منكم.
في هذا الوسط المتحدي والجديد، فإن الناس والأمم الذين شلَّهم صراع الآخرين من أجل السلطة، قد أصبحوا الآن أحراراً ليأملوا. بالرغم من التسارع الكوني فإن أمريكة ما تزال تستفيد من الحرية الفكرية والأمل بالمستقبل اللذين قامت عليهما هذه الأمة. لكن هذين العاملين الذين يعتبرهما ببساطة من اعتادهما أمراً بديهياً، فإنهما موضع همٍ أزلي في مجتمعات أخرى عديدة، ففي الجزائر والبوسنة ورواندا وطاجكستان يقاتل الناس ويموتون بأمل أن تتغير حياتهم في النهاية. تلك الأمم التي اعتادت أن تعتبر جزءاً من العالم الثالث صارت مجرد "جنوب" أو "شرق" خاملين، حتى إذا تخلصت من خمولها أصبح لها حضور متزايد. وحقيقةً إن العالم الذي أنتم على وشك دخوله هو عالم رجراج وعليكم أن تكونوا مرنين فيه.
أخبرني الرئيس غريغوريان بأنني أول مسلم على الإطلاق يلقي خطاباً في حفل التخرج في جامعة براون خلال تاريخها الفائق الشهرة على مدى 232سنة. هذا ما يجعل من المناسبة تكريماً خاصاً لي. إنها تحمل أيضاً مسؤولية جليلة بل مهيبة في الحديث عن موقع الإسلام، وعن المسلمين في عالم اليوم، عن آمالهم وطموحاتهم، وعن التحديات التي يواجهونها. إنها أيضاً مسؤوليتي، وهي بالفعل مصدر سرور لي أن أتحدث عما يمكن فعله، وعن بعض الأشياء التي تُفعل للرد على هذه التحديات.
إن مكانتي، باعتباري إماماً للمسلمين الشيعة منذ عام ١٩٥٧، لا تحمل أي طابع سياسي، إنها ذات استقلالية تمكنني أن أتحدث إليكم بصراحة. حالياً في الغرب تسيء الأغلبية فهم العالم الإسلامي بشكل كبير. فالغرب لا يعرف سوى القليل عن تنوع العالم الإسلامي أو عن الدين أو المبادئ التي توحده أو عن ماضيه اللامع أو انغلاقه التاريخي الحديث. لقد لفت العالم الإسلامي الانتباه أكثر في الغرب وأمريكة الشمالية وأوروبة من خلال عنف أقليات معينه أكثر مما عرف عبر نزعة السلام المتجلية في عقيدته وفي الغالبية العظمى من شعوبه. لقد صارت كلمتا "إسلام" و "مسلم" تستثيران صورة الغضب والتمرد في الوعي الجماعي لمعظم الثقافات الغربية. وبالتالي أصبح العالم الإسلامي شيئاً ما لا يريد الغرب أن يفكر فيه، ولا يفهمه، ولا يتعامل معه إلا عندما يكون ذك لا بد منه.
هذه الصورة ليست خاطئة فحسب، بل إن هناك أسباباً قوية لا نستطيع إغفالها توجب على الغرب والعالم المسلم أن ينشدا فهماً مشتركاً أفضل. أول هذه الأسباب هو أنه مع ضعف الكتلة الشرقية عسكرياً ومالياً وسياسياً، يكون العالم الإسلامي إحدى قوتين وحيدتين محتملتين على الخارطة السياسية في مواجهة الغرب في الساحة الدولية، بينما القوة الأخرى هي نمور شرق آسية. وهناك أقليات إسلامية كبيرة تعيش وتؤثر في بلدان أوربية كثيرة. كما يسيطر العالم الإسلامي على معظم المتبقي من احتياطي الثروة النفطية الباطنية. إن انبعاثاً إسلامياً يجري في بلدان ذات أهمية استراتيجية للغرب مثل أمريكة - ولدى العديد من الدول الإسلامية طموحات نووية. لقد أثبتت حرب الخليج أن الأحداث في العالم الإسلامي لها بلا شك تأثير مباشر على الاقتصاد والأمن العالميين.
على الغرب أن لا يتجاهل تطور جمهوريات آسية الوسطى المسلمة أو تفاعلها مع مستقبل روسيا. فمعظم أفريقية الواقعة جنوب الصحراء مسلمة، ولا يستطيع أحد منا أن يدير ظهره لهذه القارة المعوزة. السبب الثاني لكي ينشد العالم الإسلامي والغرب فهماً متبادلاً متزايداً هو أنه إثر الحرب الباردة أصبح واضحاً أن العنف والقسوة بجميع أنواعها ما هما إلا وباء استشرى في كل أنحاء المعمورة. قد تكون هذه القسوة عسكرية أو شبه عسكرية وحشية. أو قد تكون مركبة وغير لافته للنظر ولكنها ليست أقل عنفاً. إنها تتراوح بين التفجيرات الانتحارية إلى التطهير العرقي، إلى نسيان وتجاهل شرائح واسعة من المجتمع. إن هذا يحدث حتى في أمم صناعية مثل هذه الأمة.
إزاء هذه الصورة العالمية المقلقة يجب أن يكون واضحاً تماماً أنه بقدر ما يكون الإسلام معنياً، فإن هذا العنف ليس من طبيعة العقيدة ذاتها، كما يريدكم الكثير من أجهزة الإعلام أن تعتقدوا. ذلك سوء فهم أصبح جامحاً، ومع ذلك يجب أن لا يقام له أي اعتبار فعلي وألا يقبل أو يمنح أية مصداقية. إن ذلك خطأ مدمر. ربما أن تلك الأسطورة، القائلة بأن الإسلام مسؤول عن كل الأعمال الخاطئة لمسلمين معينين، نابعة من حقيقة أن مفاهيم الدين والدنيا، والعقيدة والعالم بالنسبة لجميع المسلمين مرتبطة ببعضها بشكلٍ لا يمكن فصمه. إن هذا الارتباط موجود (في الإسلام) أكثر من أي ديانة توحيدية أخرى في العالم. وهكذا فإن النتيجة الطبيعية في عالم كامل، هي أن تُلحقَ دائماً جميع الأفعال السياسية والاجتماعية للمسلمين بالإطار الأخلاقي للعقيدة. ولكن هذا ليس عالماً كاملاً بعد. يجب على الغرب أن يتوقف عن الخلط بين هذين الارتباطين: الارتباط ما بين الروحي والمادي في الإسلام، والارتباط بين الدولة والكنيسة.
ومع رحيل الملكين تشارلز الأول ولويس السادس عشر، أدخلت الثقافة الغربية عملية العلمنة التي تطورت إلى ما هو اليوم مؤسسات ديمقراطية وثقافات علمانية. ومن جهة أخرى فإن الإسلام لم يُصَدَقْ أبداً على أي عقيدة سياسية. ولذلك فإن عملية العلمنة التي ظهرت في الغرب لم تحدث مطلقاً في المجتمعات المسلمة. وما نشهده اليوم في بلدان إسلامية معينة هو تماماً تطور معاكس، ألا وهو جعل العملية السياسية لها صبغة دينية. لا يوجد إجماع في العالم الإسلامي حول الرغبة في هذه النـزعة، ولكنها ستكون أقل تهديداً لو كانت الأخلاق الإنسانية للعقيدة هي القوة المحركة لعمليات التغيير.
إن القوة الجاذبة لإعلام هذه النـزعة تساهم في ميل الغرب إلى تصور جميع المسلمين أو مجتمعاتهم أنها كتلة متجانسة من الناس يعيشون في فضاء ديني غير محدد، إنهم يشكلون "الآخر" الذي يتطور في مكان ما. وبما أن المسلمين يشكلون الأكثرية في حوالي 44 بلداً وهم يشكلون ربع سكان العالم تقريباً، فيجب أن يكون واضحاً أن عالمنا لا يمكن أن يتكون من أناس متجانسين يشتركون في أهداف العقيدة ذاتها وحوافزها وتفسيراتها. إن (الإسلام) عالَمٌ بحاله، واسع ومتنوع بطموحاته واهتماماته.
أليس في الأمر فظاظة فكرية لدى هؤلاء الذين يختارون أن يعتبروا ملياراً من الناس من أية عقيدة كانت على أنهم كتلة بشرية ذات مستوى واحد؟
ربما كان العبء الكبير للتخلف، والذي لم يستطع التخلص منه إلا القليل من البلدان الإسلامية، هو الذي يوحدنا في أعين الغرب، وهذا يفرزنا عنه. ربما ليس هناك دين عالمي لديه مثل هذا الحشد الكبير من الناس الذين يعيشون الحاجة والخوف: من المرض إلى الوهم السياسي، ومن الافتقار إلى التكامل الوطني إلى ضياع الهوية الثقافية، ومن الاضطرابات أمام قوى التعددية الجديدة واقتصاد السوق الحرة إلى غياب مبدأ الكفاءة. ليس هناك عقل راشد أو منصف يستطيع أن يتشكك في منطقية ومشروعية خوفنا من التغريب أو من ضياع هويتنا الإسلامية. ما من أحد يستغرب خوفنا من التنافر بين إيماننا وممارساتنا، وبين حياتنا المادية وخوفنا من الصعوبات التي نواجهها في إنتاج الثروة وإدارتها، وخوفنا من الحاجة لابتكار نظام من القوانين ينسجم مع قيم ديننا على ألا يكون هذا النظام أقل انسجاماً مع عالم اليوم ومتطلبات الغد. إن العالم الإسلامي الذي كان يوماً ما حصناً رائعاً للعلم والمعرفة الإنسانية، ومهداً غنياً واثقاً بنفسه للثقافة والفنون لم ينس ماضيه. ولا بد أن تسبب الهوة بين تلك الذكرى وبين المشاكل المستقبلية الضخمة الضياع حتى لأكثر المجتمعات استقراراً وأمناً. ربما تسألون –ولكم الحق في ذلك- ماذا حدث لذلك العالم، ولماذا وصل إلى مثل تلك المرحلة المتقدمة من الهشاشة؟ إن المشاكل المعاصرة العديدة في العالم الإسلامي هي حصيلة الصراعات السياسية الموقوتة التي انبعثت مع نهاية عصر الاستعمار أو الحرب الباردة. ألم تكن جذور الصراع في كشمير قد أُرسيتْ لدى تقسيم الهند في عام 1947؟ أوليس اندلاع الحرب الأهلية في أفغانستان وطاجكستان تعزى إلى الانتفاضة السياسية المرافقة لنهاية الحرب الباردة أكثر مما هو سبب الصراع الديني بين المسلمين أنفسهم؟ أكان الصراع في الجزائر بسبب الاختلافات في تفسير العقيدة بين الجزائريين أم بسبب محاولة للإصلاح السياسي أخفقت عندما وضعت تحت الاختبار؟ هذه الصراعات هي بعض من التركة التعيسة للبلدان الإسلامية التي استخدمت كغيرها كحجارة شطرنج أو بدائل في الحرب الباردة.
ومع ذلك فإن مشاكل كثيرة يعاني منها العالم الإسلامي الآن، قد وجدت منذ قرون. كانت الحضارة الإسلامية تمسك بناصية الثقافة العالمية منذ القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر فاستوعبت وتبنت واستخدمت وحفظت جميع الدراسات السابقة من رياضيات وفلسفة وطب وفلك وغيرها من المجالات العلمية الأخرى. فالحقل الإسلامي للفكر والمعرفة أدخل وأضاف إلى الكثير من المعارف التي بُنيتْ عليها كل الحضارات. ومع ذلك قلما يُعترف بهذه الحقيقة هذه الأيام سواء في الغرب أم في العالم الإسلامي، وهذا التجاهل ترك ثغرة مداها ستمائة سنة في تاريخ الفكر الإنساني.