أكمل الطفل كتابة واجبه المدرسي ثم نظر الى والده بشئ من الرجاء وقال: أريد عصفوراً يا أبي.
فوجئ الأب فقد ظن أن ابنه الصغير الذي لم يتجاوز السابعة قد نسي موضوع العصفور، لكن الطفل بدا أكثر تصميماً هذه المرة فما آن شعر أن طلبه قد فاجأ أباه حتى عاد للقول بنبرة استعطاف: الله يخليك يا أبي أريد العصفور.
لعلها المرة المئة التي يطلب فيها الطفل من والده أن يشتري له عصفوراً...وفي كل مرة كان الأب وكذلك الأم يحاولان ثنيه عما يفكر فيه ويتذرعان بمختلف الحجج لعدم تلبية طلبه، وكانت آخر حجة عرضاها عليه هي أن للبشر منازلهم وللعصافير أعشاشها ولا يصح أن توجد العصافير في غير أمكنتها الطبيعية كما أنه لا يعقل أن يعيش البشر في أعشاش على غصون الأشجار...يومها خيل للأبوين أن الطفل قد اقتنع بحججهما فطلبا منه وعداً بعدم العودة الى طلب العصفور، ووعد الطفل لكن على مضض، ولم تمض أسابيع على ذلك اليوم حتى عاد يطلب العصفور وبإلحاح أقوى وتصميم أشد.
كان الأبوان يجدان صعوبة بالغة في فهم سر حب ولدهما للعصافير وتعلقه القوي بها فلم يكن ثمة شيء يسعده أكثر من رؤيتها ولم يكن حديثه، في الغالب، يدور إلا حولها، وكان ينتظر أيام الجمعة بفارغ الصبر واللهفة ليذهب الى الحديقة القريبة التي كان يسميها جنة العصافير.
وإذ اعتقد الأبوان أن حالة طفلهما ليست طبيعية فقد قررا عدم الاستجابة لطلبه بل وصرفه عن التفكير فيه نهائياً لذلك عندما أخل الطفل بوعده وعاد الى طلب العصفور شعر الأب بالغضب ورد عليه بنبرة تهديد قاسية: إنسَ هذا الموضوع وإذا عدت إليه مرة أخرى فسيكون عقابك صارماً.
صدم الطفل صدمة قوية مما سمع وحزن حزناً شديداً ثم غرق في الصمت بضعة أيام قبل أن يقرر في ليلة باردة، وكان أبواه قد خلدا الى النوم، أن يرسم عصفوراً على أحد جدران غرفته، وقد أجاد الرسم وبث فيه من روحه المعذبة حتى بدا العصفور وكأنه حي يرزق ولم ينم إلا بعد أن تحدث معه كما يتحدث صديقان التقيا بعد طول غياب.
في الصباح استيقظ الطفل على زقزقة عصفوره، وكان سعيداً يقول في نفسه: لا بد أنه جائع ويريد أن يأكل، عندما دخلت أمه الى الغرفة وشاهدت الرسم صرخت: وشوهت الجدار أيضاً يالك من صبي يابس الرأس.
استيقظ الأب على صوتها الغاضب وطار صوابه عندما شاهد الرسم بدوره وكاد أن يعنّف الطفل لولا تدخل الأم فاكتفى بأن عاقبه بحرمانه من الذهاب الى الحديقة...ولم تهدأ ثائرته إلا بعد أن اشترى علبة طلاء وطلى مكان الرسم حتى محا أثره تماماً.
في الليل نهض الطفل من فراشه وعيناه مغرورقتان بالدموع وكتب على مكان الرسم بيد مرتجفة وخط حزين: هنا يرقد صديقي العصفور.
**قصة محمد كنايسي