قصيدة النثر ومشكلة التوصيل
هل
صحيح أن قصيدة النثر ضد الفهم وضد المنطق، وهل هي أشبه بالهذيان، أو توارد
الخواطر، أو هي مجموعة من المفردات التي تتعالق بشكل اعتباطي، من دون أدنى
محاولة للترتيب، وهل اللغة فيها تسبح في فلك تتعانق فيه مفرداتها وتتعالق
من دون تدخل مستعمل اللغـة ، لتغدو عملاً آلياً ميكانيكياً، وشكلاً من
أشـكال الكتابة المتسقة وحركة الحياة الآلية المعاصرة؟.
هل أنجزت قصيدة
النثر الحالية مراحلها التجريبية، أم أنها توقفت عند مرحلة نشوئها الأولى،
التي تشبه الانطلاقة الأولى للمخلوقات في بدء تكونها، تلتقي وتتعالق من
دون رابطة سببية، فوجودها البدائي سابق للمنطق وسابق للنظام، وعند هذه
البداية تحجرت قصيدة الحداثة؟.
والسؤال المهم هنا : إذا كانت بالفعل
هذه حقيقة الحداثة، فكيف يتم التواصل معها في عصر العلم، بمعنى آخر كيف
يمكن قياس اللغة الاعتباطية في قصيدة النثر بالعقل العلمي؟.
إذا كانت
الحداثة تتلاعب باللغة، أو تطلقها من قيودها دفعة واحدة، فكيف يمكن تحديد
المقاصد والأهداف، لا بل كيف يتم الفهم والتواصل والتذوق، وما هدف النص
الحداثي الذي ينغلق على نفسه، أو يستحيل ضرباً من العبث ؟ يقول أدونيس:
عربات النفي
تجتاز الأسوار
بين غناء النفي
وزفير النار
آه الأشعار
رحلت مع عربات النفي
الريح ثقيلة علينا
ورماد أيامنا على الأرض
نلمح روحنا على بريق شفرة أو على طرف خوذة
وخريف الممالح يتناثر فوق جرحنا وما من شجر أو نبع.
بعيداً تجر المأساة وجه تاريخنا
وتاريخنا ذاكرة يثقبها الرعب
وسهول غريبة من الشوك الوحشي.
مما
لا شك فيه أن أدونيس في مرثيته الآنفة قد اتبع نهجاً معمارياً لا يخلو من
الغرضية، انظر كيف يبدأ هذا المقطع بدفقة شعرية ممتلئة بالإيقاع ومترعة
بالموسيقا، غير أن هذه الموجة سرعان ما تندثر في فِنَاء النثر المترامي،
وعليه تظهر النثرية على الشعرية، وتغيب تفصيلات النص، فلا يميز القارئ
موضوعاً صريحاً، ولا فكرة واضحة، وكل ما هنالك غضب وتشاؤم، أو تشاؤم ينجم
عنه غضب، إنه يزوج ألفاظاً لألفاظ من دون علاقة شرعيـة، ثم يلحق جملة
بجملة من دون رابطة، لذا تتوارد الجمل، كما تتوارد القطعان بغير نظام، ولك
أن تحذف ما تشاء من تلك الجمل، ولك أن تبقي ما تريد منها، لأن المعمار
اللغوي هش، يقوم بصورة تراكمية، وبغير أساس، لهذا لا ترى في القصيدة طوابق
كالطوابق التي في الأبنية، وإنما تجد غرفات منفصلة عن بعضها ولكنها
متجاورة، إنه بناء يعيد القصيدة إلى مرحلة التوحش، وإلى ما قبل التاريخ ،
وإلى ما قبل اللغة، كل ذلك لأن الجمل ليست متراصة، والألفاظ ليست مترابطة،
وعليه لا تجد معنى واضحاً يبل الصدى، فتحسب أن الشاعر يتلاعب بالكلمات أو
أنه يدخلها في مخاض التجريب، وتغيب مع تراكيبه الغريبة لتقف عند قوله:
«نلمح روحنا في بريق شفرة أو على طرف خوذة»، فلا تجد معنى كامناً في قلب
هاتين العبارتين، لذا فإنك تشعر شعوراً قوياً أن الكلام في تلك العبارتين
ضرب من التعمية، وكذا الأمر في سائر عبارات القصيدة يغرس فيك الشعور نفسه،
لتخرج في نهاية الأمر وكأنّ فعل القراءة زادك جهلاً باللغة وحجب عنك
الفهم، ومن ثم تعذر تواصلك مع خطاب النص، فبقي في حال كمونه، وبقيت في
حالة رفضك، والسبب في ذلك أن اللغة في النص أشبه بلغة طفل قبل سن الوعي،
يركب الكلمات على غير نسق سابق ومن دون نظام، فماذا يعني بقوله: نلمح
روحنا في بريق شفرة؟ هل يريد أن يبعث التاريخ أم يريد أن يعبث بالتاريخ،
هل يريد التعبير عن معنى أم يريد الهروب من المعنى، ثم ما فحوى الهروب إلى
اللامعنى؟. هل لقصيدة النثر كون خاص، وتجربة فضفاضة مع اللغة؟ صحيح أنها
تتكئ على لغة المعجم من جهة استعمال المفردات، فكلمات النص الآنف معجمية
وفصيحة، لكن التراكيب وحشية لم يألفها الاستعمال من قبل، وهي بذلك تفتح
الباب واسعاً أمام شعراء الحداثة كي يخترعوا ما يريدون من التراكيب، من
دون أن يقعوا في التكرار أو في السرقة.
وفي وهمهم أن التراكيب
الشعرية بلغت سن اليأس، وأصيبت الصور الموروثة بالشيخوخة، فوجب بناء على
ذلك أن تعود القصيدة النثرية إلى المخاض لتشكل عوالمها الجديدة تشكيلاً
جديداً.