أعرفكم على قيصر الحقول الأبدية و أمير الشتاء
قيثارة الأغنية الزرقاء في قاع المحيط ...و على سطحه ذئب البحر
أعرفكم على غموض الليل و أسراره..و ضوء النهار و أنواره الباكية على كتف صمت الريف و عطائه و شموخ جبال اللهفة و الترحل بين غيوم من رصاص..
أعرفكم على قاموس اللغة التي حررت ذاتها ...عبقرية من حروف و كلمات ...
ربابة الخلاص ما زالت تئن...
و بركان الكلمات يأتي بها من فوهة القهر..
يعطرها بعبق السجائر التي تتنفس دماءً و رئات و ضجر...
أعرفكم بالسحنة السمراء المزركشة بعيون شاعر تشبه عيون الحقيقة الهائمة في عمق نخلة خضراء..و جرداء..في بادية من الماء و السراب و الضياع...
أعرفكم بعاشق الشتاء في عزِّ النهار المتحمم في صيف ناري الهوى..
و أمير الظلام في ليل سمرنار العاشقة التي ذابت على شفتيه منذ خلق إلى أن اندثر جسده على أجنحة غيمة العشق البوهيميي الساحر...
يشبه مدينتي بأحلامه الطوباوية
يشبه أجنحة الحمام و اليمام...
لكنه أقسى من نسر القصيدة الشرسة..
و أصلب من أعواد المشانق المعدة للورد و الغناء و المشاعر المرهفة و العاشقين المتكاتفين على دروب المدينة التي عشقها لحد الذوبان على أرصفتها و مقاهيها..التي أكل الزمان عليها و شرب ....
(( ذات يوم
من أيام القرن الماضي
التفت صوبي..... و حيَّاني
قرب الموقد
حيث تغني النيران الوردية... الراقصة
و حيث يشرد الذهن المطمئن في جولة خيالية ممتعة))
قال لي: ممن تشكين أيتها المرأة ؟؟
مما تشتكين و أنت العالم و احتواؤه ؟؟؟
أجبته بخوف الأنثى في مزرعة الضباع :
لقد اغتالتني أعاصير السماء التي وضعت رحالي فيها ...
و ها أنا أمضغ الصمت..
و أطحن الهواء مع الوقت، و أتقيأ الألم...
أطفح بالحياة و أشبه عناقيد العنب قبل الاستواء و بعد الاستواء
خمرتكم و تعاستكم بين أصابعي...
أنا المرأة الخائبة الخاسرة
التي تحمل انتصاراتكم و بطولاتكم
أنا المرأة المفتوحة على كل الشرائع و الأبعاد
الخاوية كمياه سلمية و آبار الصحراء في حرِّ تموز و آب
إذا تمنيتم عليَّ أن أغير جلدي كأفعى الصحراء ..
فحري بكم أن تحركوا صمتي فلا ..لا ...تغتالوه
أيها الشاعر الهفهاف
أنا زرقاء اليمامة أشاهدكم عبر آلاف الأميال
أنا سندريلا المهملة في الزوايا و المنعطفات
أنا ولاَّدة و ليلى التي تحب جدتها و خالتها و عمتها و تعشق الجيران ..
أنا بائعة الكبريت تحت المطر..
تتمنى أن تمطر السماء أكثر من المطر على الغربان..
أبحث أيها الشاعر عن جنية تعيد إلى شتات عقلي و فكري
أبحث عن نفسي ؟؟!!
أجابني الشاعر سليمان عواد:
عودي أيتها المرأة الخارجة من رحم العالم
عودي إلى الأغنية الزرقاء..و حقول الأبدية و سمرنار و شتاء...إلى أغانٍ
بوهيمية و الحلم البعيد و النجوم و السماء و ذئب البحر و أغانٍ إلى زهرة اللوتس
غني مع الفقراء تحت ضوء الشمس أناشيد العاصفة و لا تنحني أمام المصاعب و الأهواء....
** ** **
ولد الشاعر سليمان عواد في سلمية عام/1922/..و تلقى تعليمه فيها و من ثم في الكلية الأرثوذكسية في حمص ليلتحق بعدها بالجامعة اليسوعية ليدرس العلوم السياسية و لعام واحد حيث عمل في وزارة الزراعة- الحراج- ليصبح فيما بعد معيداً في كلية الزراعة حين كانت في خرابو ليفصل من عمله لأسباب سياسية إلى أن أعيد توظيفه في وزارة الإعلام في دائرة رقابة الكتب...إلى أن ترك عمله ليتفرغ للحياة البوهيمية و الشعر و الترجمة عن الفرنسية...
ترك مدينته سلمية من عام /1952/و لم يزرها ثانية إلا بعد ثلاثين عاماً رغم أنها كانت تسكنه و كان يسكنها... و المرة الثانية التي زارها فيها...أتى وحيداً مع بعض الأصدقاء و بعض الأهل في ((18/1/1984)).. ليرقد جسده على بساط عشبها المملوء بالغبار و الغربان...و لتبقى روحه ترفرف قصائد...من تشرّد و عشق و عيش كما تشتهي،.. شعراً رائداً لقصيدة النثر.. التي ظلَّ وفياً لعشقها منذ عرفها و حتى الساعة، فهي القصيدة التي تعشق شاعرها و متلقيها حتى لو تجاهلتها أقلام النقاد و غير النقاد .
أعماله الشعرية:
سمرنار ... 1957
شتاء ... 1957
أغانٍ بوهيمية ... 1960
حقول الأبدية ... 1978
أغاني لزهرة اللوتس ... 1979
الأغنية الزرقاء الأبدية ...صدر بعد وفاته عام /1986/
ترجماته:
شعراء من رومانيا
ذئب البحر
و له كما أعرف رواية مسرحية بعنوان [ من همجستان]
إضافة لكتب و مقالات كثيرة مترجمة و سياسية ...
فهل ترجلت القصيدة بعد أن ترجل الشاعر ؟؟؟!!!
** ** **
و الآن ..بعد سنين و شهور و زمان و قراءات أعادتني إلى أشعار سليمان عواد لأجد في حروفه نبض الحياة يتألق في ماضيها و يتألم في حاضرنا شراعاً من الأمل ...شاعر حداثوي بكل بساطة الأصالة و الوفاء لحاله التي لازالت معنا تطوف فوق قلوبنا بجرأة التحدي:
(( سأواجه الواقع بكلِّ عزم و صلابة و جرأة
سأتحمل برجولة كلَّ طارئ و كلَّ مسؤولية
مهما تكن النتيجة
سأقول للجميل أنت جميل
و للقبيح أنت قبيح ))
قصيدة النثر عند سليمان عواد حرَّة طليقة في اختيار الشكل الذي يناسب مضمونها و بكل خصوصيتها التي تزخرفت بتجربة الشاعر الحياتية و اليومية
التي ضمخت شاعريته بتراكيب جدلية و حوارات نفسية بقدر بساطتها عميقة إلى حدود لانهائية بين هدم البشاعة و سمو الروعة:
(( أشعر الآن
كأن شبكة من العيون الحاقدة
تحيط كالحيوانات المخيفة ... بقلبي و ذهني
و أحسُّ أنَّ الشمس و العالم بكلِّ ضوضائه
خشبة ضخمة نخرها سوس العدم
تنطرح بكلِّ ما للعالم من ثقل و سماجة
في بحيرة عزلتي الرهيبة عن العالم
آه ..ما أتفه الشمس التي تطلع على تلك العيون الحاقدة
الأسى العميق عصر نفسي عصراً موجعاً ))
بنى سليمان عواد قصيدة النثر لديه على لذةٍ للفكر و للعقل ، مستبعداً الإيقاع الخليلي الذي هو لذة للأذن أكثر الأحيان :
((آه لو تدرك عيناك الخرنوبيتان الحزينتان
معنى الخشوع الشاعري
في هيكل العبادة الصوفية الصامتة
التي تسكب على الروح
فيضاً جليلاً من عطور الجراح المحترقة))
و هو شاعر بوهيمي صوفي الإحساس :
((إن قلبي كتاب مضطرب العبارات
ضبابي المعنى
الرؤى الصور
متناقض الخواطر و الأفكار
إن قلبي كتاب حياتي الفوضوية المشعثة
كقصائد بوهيمية
يصوغها شاعر من عالم التشرد و الاضطراب ))
الشاعر لا يهمه جمالية الكلمة أو الحرف و لا ينتظر إطراء ، إنه ملم باللغة و قواعدها و مؤمن بمصداقية الحرف و دلالاته لذلك لم يقتل الكلمة من أجل الموسيقا التي تساعدها على الوصول و لم يترك القافية تقتل ما بعقله و وجدانه من أفكار و مدلولات حرة طليقة إنه شاعر التمرد و شاعر الحرية و الكلمة النظيفة ..
لقد رفضت الحضارة الحديثة بدءاً من أوائل القرن التاسع عشر الذهنية القديمة فميزت بين الشكل والمضمون ، و في الشعر ميزت بين النظم و الشعر فهناك شعر جميل ليس نظماً و هناك نظم جميل لا شعر فيه .
قصيدة النثر عند سليمان عواد، فيها موسيقى لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة ، هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا المتموجة و حياتنا الجديدة هي إيقاع حي يتجدد كل لحظة :
(( أنت أيها الفلاح أو العامل الفقير
الذي تعيش في غبار الفاقة و ثلوج الحرمان
محروماً من ضوء الشمس و عطر الحياة
أنت صانع الرفاهية و خالق الطمأنينة
في نفوس الآخرين
من ساعدك الجليل و دموعك الأليمة
تنطلق رياح النهضة المشرقة
التي ستقتلع الجذور المهترئة
في غابة الحياة المخيفة ))
لقد تحررت قصيدة النثر عند الشاعر سليمان عواد من وحدة البيت إلى وحدة الفكرة ، و حرر اللغة من عوائقها ، رفض القيود الحريرية الجاهزة و انطلق لأغنية الطبيعة التي يتردد صداها في كياننا لتخرج قصيدة كالنهر المتدفق ليشق مجراه بخطورة وحرية و شفافية :
(( كالريف أنا
أمنح خيري بصمت ... و سكون
كالريف
أحيا على أنوار الكواكب و نبل الإنسان
مفكراً بمغزى الشتاء الإنساني الكبير
الشتاء الأبدي الذي لا يريد أن ينتهي ..))
سليمان عواد شاعر متمرد و مشاكس أقسى من الصخر على شواطئ البحار ، و أرق من قطرة الندى على زهرة الياسمين ، يلفه غموض الوعي و تغذيه حرية المبدع حيث يطلق العنان لنفسه ، لتقول ما تشاء دون أن يسورها بقيد:
((ما أقسى أن نكون وحيدين كالذئاب الجائعة
في بلاد الجهل،الرمل،و الغبار
ما أقسى التربة التي تدفن أزهار العبقرية
و هي في ذروة النضج و الإستشراق
و ما أقسى الوطن الذي يدفن
الطفل الملاك ...و هو في مهده ))
سليمان عواد لم يهرب من قصيدة الوزن إلى قصيدة النثر بل آمن بحتمية الإنسان الحر من كل أثمال الماضي المهلهلة ...فكانت قصيدة النثر خياره الأولي و النهائي ...فاختار أن يكون مع بودليير و ويتمان و رامبو و مالارميه ليخلق، كما فعلوا، لغة شعرية جديدة متطورة، إيقاعها إيقاع إنساني ووجداني..يعبر عن كوامن النفس البشرية دون تعقيد أو تقييد، لتصبح الجملة عنده عالما صغيرا مبنيا من كلمات تأخذ معناها من موقعها،الذي يؤطره التضاد المفاجئ للحلم و الرؤيا، فتشكل فرحاً و ألماً و مشاعر تهتدي إلى مرساها كلمات من عبقرية:
((أنا نقطة الماء...
التي فيها كل معاني البحر..
و حبة القمح....
التي فيها كل أسرار الحقل
و قطرة الندى...
التي فيها كل أغاني القمر
و شعلة الحق ....
التي فيها كل ألغاز الطبيعة
و حفنة التراب ...
التي فيها كل مغزى الأرض
أنا لا شيء في الوجود ....
و أنا كل الوجود.....!!!))
إنه استرسال للشعور ، و استسلام للأحاسيس و بعد في الرؤيا و التفكير ، سوداوي، تأتي سوداويته من حياة عاشها بين العذاب و العذاب عذاب، وبين الوجع و الوجع وجع:
(( نفسي ظمأى
فأين ينابيع الفكر و الثقافة النيرة
نفسي جائعة
فأين خبز المعرفة و خمرة الأدب و الفلسفة
و أمامي ماذا أجد في دروب الحياة
لا شيء
سوى الصقيع،الوحشية، الظلام ))
صور من روح الحياة اقتطفها الشاعر لتخرج من دمه قصائد لا تشبه إلا شاعرها...الذي عاش الشعر بوهيميا وفيا لذاته ، فكانت تكفيه كسرة خبز يقتات عليها طوال يومه ، متشردا كالزورق السكران على شفتي المدينة التي أحبها فعاقبته بالقصيدة و الشعر ...
فسابق شعره تجربته الحياتية، مرة كان يسبقها، و أغلب المرات كانت تسبقه ،ممتلئة بالشعور و التجربة و الإحساس و المعاناة...
هي قصائد تطل على العالم بمناخ دائم الرؤية ضمن تضاريس مفتوحة كيد السماء غير مسورة إلا بالإنسان الذي يغرد كعصفور يقول ما يشاء ساعة يشاء و كيفما يشاء ، فيقسو على الوردة حين تتكاسل و لا تبوح بعطرها..
يجرح و يمجد بكلمات منتقاة من عبير روحه و إنسانه يعزز قاموس التعبير بناءها لتعبر عن عالم شعري كثيف ، و كتلة مشعة بالفكر الإيحائي المنعتق بالخلاص من قيود الحياة و الجسد ليهز خمولنا وكياننا من شروشهما ...
إنه شاعر مبدع و رائد من رواد قصيدة النثر العربية...صادق الكتابة و الصياغة الفنية ملتزم بما يؤمن به ، رغم المعاناة التي حاصرت حتى روحه...لتتوجه قصيدة النثر أميراً لشعرها و شعرائها...
يقول بأخر قصيدة نشرها قبيل رحيله...و هي قصيدة:غيوم من رصاص:
(1)
بعض الكتاب
يصوبون بنادقهم
نحو البلابل الرومانسية
لأنهم يكرهون غناء البلابل الأخضر
و يحبون نعيق الغربان
آه..يا بنادق الواقعية المتوحشة
ماذا يكون مصير الحدائق و البساتين
إذا انقرضت البلابل ...و سادت الغربان؟؟!!
(2)
القمر يشرق منذ آلاف السنين
فكم شاهد من ناس
و خبر من حضارات
وكم خبأ في صدره
من أسرار و عبر
القمر يشرق
أيتها الأمواج أنت شاعرة
و أنا ..شاعر
لقد جمعتنا الأيام لفترة قصيرة
العالم كبير و واسع
و مع ذلك
فإنه لا يتسع لروح شاعر ))...
أجل خرج سليمان عواد من هذا العالم لتبقى روح الشاعر محتوية العالم لتأخذه إلى القصيدة لينام حالماً بالعفوية و البراءة ... و أشياء لعلها تكون أجمل مما عاشه الشاعر سليمان عواد