أطراف المناظرة
الطرف الأول : حجة العراقين أحمد حميد الدين الكرماني داعي الإمام الحاكم علية السلام على العراق وفارس وهو غني عن التعريف كانت وفاته في عام 411هـ .
الطرف الثاني : القاضي عبدالجبار الهمذاني وهو عبدالجبار بن أحمد بن عبدالجبار أبو الحسن الأسد أبادي الشافعي الأصولي المعتزلي ، شيخ المعتزلة في عصره ، تولي القضاء في الري وتوفي عام 415 هـ . من كتبه :
تثبيت دلائل النبوة ، المغني للمعتزلة ، المجموع في المحيط بالتكليف ، تنزية القرآن عن المطاعن .
وقد كان للكرماني مناقشات عديده معه ، ومنها وضعه لكتاب < النقد والإلزام > في الرد على أراءه الخاطئة التي وردت في بعض كتبه ، وقد ألمح إلى ذكر ذلك في كتابـه الأقوال الذهبية.
أما عن هذه هي المناظرة فقد قال عنها الكرماني أعلى الله قدسه : لقد جرت بيننا وبين بعض المعتزلة في أمر علي صلوات الله عليه مناظرات كثيرة 00 نذكر منها طرفا ً ليزداد المسترشد إيقانا ً بما عليه الأعتقاد في عبادة الله تعالى بإمامته وإمامة الأئمة عليهم السلام ، وتشحذ خواطرهم في لقاء ذوي العناد .
وقد كان مما ورد في هذه المناظرة ما يأتي :
--------------------------
الداعي : أعلمونا ، هل النص على من يقوم مقام الرسول ( ص ) قبيح في العقل أن يفعله أم أحسن في العقل وجائز أن يفعله .
القاضي : ليس بقبيح ولو نص الرسول ( ص ) لكان جائزا .
الداعي : فلما يُـنكر أن يكون النبي ( ص ) نص على إمام بعينه وأشار إليه .
القاضي : لو نص عليه ، لأجمع المسلمون عليه كما أجمعوا على القبلة .
الداعي : فما يُـنكر أن يكون قد نص عليه ، وإن إختلف المسلمون .
القاضي : لأن علامة كون النص من الرسول علية السلام عدم الإختلاف وحصول الإجماع .
الداعي : فما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك ؟
القاضي : علامة الحق أن لا يختلف فيه ، وكل ما وقع فيه الإختلاف فليس بحق .
الداعي : قد أختلفوا في الحق ولم يبطل الحق لعله إختلافهم فيه إذ كان ثبت بدليل ، وقد وجدناهم أيضا أختلفوا في المنصوص عليه ، فلم يبطل المنصوص لعله إختلافهم فيه ، اذ كان ثبت بدليل .
القاضي : أنا أُوجدك الأختلاف في الحق ، فأوجدني أنت الأختلاف في المنصوص عليه .
الداعي : أفعل *
القاضي : قد أختلفوا في الرسول والقرآن والإسلام ، وكل ذلك حق .
الداعي : قد أختلفوا في الرسول والقرآن والإسلام وكل ذلك منصوص عليه من قبل الله تعالى ، فإذا جاز أن يكون الله نص على الرسول والإسلام وعلى القرآن فيُـختلف فيه ، فلما لايجوز أن ينص الرسول على إمام فيُـختلف فيه .
القاضي : الذين إختلفوا في الرسول والقرآن والإسلام ، إنما إختلفوا فيه من جهة الرد والتكذيب .
الداعي : والذين إختلفوا في الإمام المنصوص عليه إنما أختلفوا فيه من جهة التكذيب والرد والعناد ، فهل من فرق بين أولئك الذين دفعوا الإمامة وقد تمسكوا عندي بالإسلام ، مع القول بدفع الإمام المنصوص عليه .
القاضي : اليهود مع دفعهم القرآن ورسالة الرسول والإسلام قد تمسكوا بشرائع موسى عليه السلام مع القول بدفع المنصوص عليه عندك ، فهل من فرق لو نص الرسول على رجل ، لكفر من جحد ذلك .
الداعي : هو كذلك ، فما تـُنكر ؟
القاضي : إذن تتقدم على الأمة كلها بالإكفار ، لأن الأمة كلها أنكرت المنصوص عليه .
الداعي : هل أكثر من أمة اليهود والنصارى والصابئة وغيرهم ، الذين أنكروا نبوة الرسول ثم النص المقدم لهم بإسمه ، فلما تقدم عليهم بإسم الإكفار .
القاضي : هؤلاء أنكروا بالتكذيب والرد .
الداعي : ومن دفع الإمامة فقد أنكر بالرد والعناد .
القاضي : إنا لما وجدنا الأمة لم تختلف في القبلة ، علمنا أن النبي ( ص ) لو أشار إلى رجل بعينه ونص عليه لأجمعوا عليه ، كما أجمعوا على القبلة .
الداعي : ولما قلت ذلك ؟ وما تنكر أن يجمعوا على بعض المنصوص ، ويختلفوا في بعض لأسباب وعلل .
القاضي : إذن لا سبيل إلى معرفة المنصوص مما ليس بمنصوص .
الداعي : وما تـُنكر ألا يتبين لك من الوجه الذي تنحوه ؟
القاضي : وما النص عندك ؟
الداعي : إن كل شيء أمر الله تعالى به أو أمر به رسوله أو أشار إليه أو فعله فهو وما كان من جنسه نص ، أختلف فيه الناس أو أجمعوا عليه .
القاضي : وبماذا ثبت النص ؟
الداعي : أما عند من حضر وشاهد فأغناه التوقيف والإشارة . وأما عند من غاب فبإخبار المخبرين الذين تثبت لمثل خبرهم الحجة .
القاضي : هل يجوز أن يـُختلف في المنصوص ؟
الداعي : قد كان وجاز .
القاضي : ولما قلت ذلك .
الداعي : لأنا وجدنا المنصوص عليه قد جـُحد وكـُذب وهو الرسول ( ص ) فأقره البعض منهم ووقع الإختلاف ، فمنهم من ثبت على جحده ، ومنهم من قال بالحق . فعلمنا أنه جائز ولم يبطل المنصوص عليه رغم إختلاف القوم .
القاضي : وكيف يـُعرف المنصوص من غير المنصوص إذا وقع الإختلاف .
الداعي : كما نعرف نبوة النبي ( ص ) المنصوص على نبوته ، وإن إختـُلف في ذلك
القاضي : فما تنكر أن تكون النبوة لم ينص عليها ، وإنما دل عليها .
الداعي : قد أخبر الله تعالى أن الأنبياء قد نصوا على محمد ص بإسمه وصفته ، فقال تعالى : " ومبشرا ً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " . وقال تعالى : " النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل ". وقد نص النبي عيسى عليه السلام على محمد ( ص ) فجحده قومه .
القاضي : لأنهم لم يعلموا الشبهة .
الداعي : قد أخبرنا الله أنهم قد عرفوا النبي ( ص : " كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا ً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ".
القاضي : هؤلاء فريق وهم البعض .
الداعي : كذلك القول في الإمامة جحدها قوم على عناد وميل إلى الرئاسة والمـُلك وطلب الدنيا . وشبه على البعض ، فأنكر بعضهم القول بالإمامة للشبهة ، والبعض أقاموا على الجحد والتكذيب .
القاضي : لِما قد جحدوا المنصوص مع تمسكهم بالإسلام ، وقد علموا أنهم كفروا بجحودهم المنصوص ؟
الداعي : كما أنكرت اليهود والنصارى نبوة النبي محمد ( ص ) وآله مع تمسكهم بسائر ما دعاهم إليه موسى وعيسى عليهما السلام ، وكمعصيتهم لهارون في عبادة العجل مع تمسكهم بنبوة هارون وموسى ع .
القاضي : هؤلاء لم يعلموا أنهم قد جحدوا به .
الداعي : قد أخبرنا الله تعالى وهو أصدق منا ومنك ، أنهم قد جحدوا بعد العلم والبيان والمعرفة به وبما جاء به ، فقال تعالى في بني إسرائيل : " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " .
القاضي : فإن فيهم اليوم من لا يعرف الإمام .
الداعي : إنما أجبناك عمن عرف وجحد على المعاندة فقلده من إتبعه بجحده على طريق الشبهة ، وكذلك قلنا في منكري الإمامة إن منهم من جحد وعاند على معرفة ، وإن من جاء بعدهم تابعهم وأحسن الظن بهم كما وصفنا عن اليهود والنصارى حذو الفعل بالفعل والقذه بالقذه .
القاضي : لم يجمعوا عليه كما أجمعوا على القبلة ، وأنتم تزعمون أن النبي ( ص ) قد نص عليه كما نص على القبلة .
الداعي : لعصيانهم وركوبهم الخطأ وبئس ما فعلوا وقد كان يجب عليهم ألا يختلفوا في المنصوص كما لم يختلفوا في القبلة ولكن لم يفعلوا ، وكما كان يجب على قوم موسى أن يطيعوه في دخولهم المدينة كما أطاعوه في غير ذلك ولكن لم يفعلوا ، إن بعض المنصوصات أشهر من بعض بإستعمال الخاصة والعامة ، لذلك فلما كان رسول الله ص قد صلى إلى القبلة وصلى معه المسلمون جميعا ً ولم يكن في جحود ذلك رياسة ولا نفاسة في خلافة لم يقع فيه إختلاف ، ونص الإمامة إنما قام به النبي ( ص ) في مقام أو مقامين ووقع في ذلك التحاسد على الرياسة لطلب المـُلك ، جاز لذلك أن تـُجحد الإمامة ولا تـُجحد القبلة وكفى على ذلك دليلا كون الفرائض المنصوصة بعضها أشهر من بعض ، لأن فرض الصلاة أشهر من فرض الزكاة والصدقات والحدود والشراء والبيع والمواريث والديات ، وغير ذلك من النكاح والطلاق والعتاق والفرائض مع كون الجميع منصوصا ً عليه ، فلهذه العلة لم تكن المنصوصات كلها كالقبلة . وأي شيء لم يُـختلف فيه من الأصول والفروع حتى تكون الإمامة متفقا ً فيها . أليس الإختلاف موجودا ً في القبلة التي هي مقام إبراهيم ، فقوم يقولون أن عمر قد غيره عن موضعه الأول ، وقوم قالوا لا . أليس الإختلاف موجودا ً في القرآن ، فقوم يقولون إنه أكثر مما هو موجود في أيدي الناس ، وقال أخرون لا بل هو هذا . أليس الإختلاف موجودا ً في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم جهارا في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة فكان المسلمون نيف وعشرون سنة يصلون خلف النبي ( ص ) فقوم قالوا جهر به ، وقوم قالوا لا لم يجهر به . أليس الإختلاف موجودا ً في الحجة التي حجها النبي ( ص ) وهي حجة الوداع وكان معه خلق كثير ، فقوم قالوا تمتع وأمر به ، وقوم قالوا إنه أفرد الحج وأمر به ، وقوم قالوا أقرن وأمر به ، وكانت حجة واحدة . أليس قطع النبي ( ص ) في حياته السارق فأختلفوا به ، فقال قوم : قطع من المفصل ، وقوم قالوا من أصول الأصابع وترك الكف لهم ، وقوم قالوا قطع من المنكب . أليس النبي ( ص ) أمر بالرجم فجحد قوم الرجم أصلا وأثبته آخرون . وإذا كانت الأمة قد أختلفت في المنصوصات كما بينا ولم يجمعوا عليها ، ولم ينقلوها كما نقلوا الخبر عن القبلة . فلما لايجوز أن ينص النبي ( ص ) على رجل بعينه وأسمه ونسبه ، فيختلفون فيه ولا ينقلون الخبر إلينا كما لم ينقلوا غيره .
القاضي : من المنصوص عليه ؟
الداعي : بعد الإقرار بوجود النص نقول : أنه علي بن أبي طالب علية السلام .
القاضي : ولما قلت ذلك ؟
الداعي : إن الأخبارالمتواترة من جهة الأمناء الثقات ، وقد وردت أيضا عن الشيعة أن النبي ( ص ) قد نص عليه ونصبه علما ً وأعلم الناس أنه خليفته عليهم وإمامهم بعده ، وروى الخبر معهم مخالفوهم من العوام فثبت بذلك الحجة على المنكرين .
القاضي : فما ينكر أن لا يثبت خبرهم ، هل لأنهم أهل مقالة واحدة ؟
الداعي : إذا أحتجت اليهود علينا في دفع نبوة محمد ( ص ) وآله فقالت : إن اعلام نبوته إنما نقلها إلينا منه أمته وهم أهل مقالة واحدة ، ولو كانت حقا ً لنقلها المخالفون لهم فبماذا يكون الإنفصال منه .
القاضي : إن المسلمين كلهم نقلوا إعلام الرسول ( ص ) وأجمعوا عليها .
الداعي : وقد نقلت الشيعة كلها نص الإمام علي علية السلام فأجتمعت عليه ، فسكت ........ ثم قال :
فكيف جبن علي بن أبي طالب عن القتال بشيعته وإن كانوا قليلا .
الداعي : لم يجبن وإن شجاعته معروفة لا يحتاج إلى إقامة برهان عليها ، لكنه كان خاليا ً من قوم ينصرونه ولم يكن معه إلا آحاد مثل سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار ومحمد بن أبي بكر ، وقد كان رسول الله ( ص ) أشجع منه ومن جميع الخلق ، وأعلم بالحروب فدخل الشعب ( 1 ) وأقام فيه مضيقا ً عليه وعلى من معه برهة ، ودخل الغار وهو هارب ، فإن قلتم : إن النبي ( ص ) جبن وخاف ، قلنا لكم : في علي مثل ذلك ، فإن قلتم : لم يؤمر بقتال المشركين في ذلك الوقت ، قلنا لكم في علي مثل ذلك أنه لم يأمره النبي ( ص ) بقتال أعدائه في ذلك الوقت ، فإن قلتم أن عليا ً علية السلام كان يعلم أنه لا يُـقتل حتى يقاتل الناكثين والمارقين فلما خاف وقد علم أنه لا يقتل ، قلنا لكم : قد قال الله تعالى لنبيه ( ص ) وآله : " والله يعصمك من الناس " . ووعده بأن يفتح له مكة ويدخلها آمنا ً ، فلما حفر الخندق ؟ ودخل الغار ؟ وظاهر بين الدرعين ؟ وقد علم أن الله تعالى يحرسه ولا يُـقتل . فإن قلتم : أنه لم يخف القتل ، لكنه خاف الأذى ، قلنا لكم في علي مثل ذلك . وقد كان هارون إستضعف فقال الله تعالى حكايه عنه : " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى " . وقال موسى : " فأخاف أن يقتلون " . فإذا كانت الأنبياء تخاف القتل وتتقيه وقد قتل منهم يحيى بن زكريا ، وألقي إبراهيم في النار ، وفر موسى من قومه خوفا ً وقال : " ففررت منكم لما خفتكم " . ولم يدل على ما جرى عليهم على بطلان نبوتهم ، فلماذا تنكر مثل ذلك في الأوصياء والأئمة عليهم السلام .
فبقى المعتزلي ساكنا ً وأطرق رأسه فأصبحت وجوه الأولياء ( يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة .
< تمت بحمد الله >
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) - هو شعب أبي طالب الذي إنحاز إليه بنو هاشم وبنو عبدالمطلب مع رسول الله ( ص ) بعد أن أ صدرت قريش قرارها بمقاطعة المسلمين ، وظلوا في هذا الشعب ثلاث سنوات قطعت عنهم خلالها الميرة حتى بلغهم الجهد ، وتصايح صبيانهم جوعا ً ، ومات نفر منهم ، من كتاب تاريخ الدولة العربية لعبدالعزيز سالم .