من رموز جلال الدين الرومي
الرمز الأكثر أهمية الذي استخدمه جلال الدين الرومي كان رمز الشمس. وهذا ليس بالشيء المستغرب لأن معلمه المعشوق الأول والأصيل كان شمس الدين. لقد شاهد انعكاسات الشمس الأزلية وأشعتها، أو وجه المعشوق، في كل مكان. إذ لا أزهار ستنمو ولا فاكهة ستنضج في غياب هذه الشمس. إن الشمس تتوّج أشواك الأدغال بالأزاهير وتحوّل الحجارة الخشنة إلى ياقوت أحمر عبر عملية تستمر قروناً. وبطريقة مشابهة، فإن المعشوق الإلهي يمنح حياة جديدة وجمالاً خالداً لكل العشاق الذين يعشقون ويكابدون وينتظرون وهم يتحرقون شوقاً. لكن لا أحد يستطيع دخول هذه الشمس لأن روعة بهائها تحرق الجميع. وتُعدُّ الشمس رمزاً جميلاً جداً وملائماً للتلميح إلى جمال وجلال الله. غير أن رمزاً واحداً ووحيداً لا يمكن أن يكون كافياً، مهما كان عميقاً وذا معنى، لفهم الجوانب المتنوعة للحقيقة الإلهية. لقد كان الرومي يبحث دائماً عن رموزه ويجدها في الطبيعة. فالبساتين والحدائق، والطيور والأزهار هي التي روت حكاية العاشق والمعشوق. وصار الطير رمزاً للروح، وهو الرمز الذي أستخدم منذ زمن المصريين القدماء وحتى يومنا هذا. إن حكاية الوردة والعندليب الرمزية، أو البطة التي تنجو إلى البحر إنما تلمح كلها إلى الحقيقة المركزية القائلة بأن الروح ترغب بالعودة إلى مجالها الأصلي. وتكتسب أصغر الأشياء في يدي الرومي، سواء أكانت فراشة أم قطرة ماء، الشفافية وتكشف عن نور السر الإلهي. فمن واجب الإنسان الذوبان ضمن المحيط الهائل لله مثل قطرة الماء، لأن الإنسان هو كموجة صغيرة أو بقعة من زبد ذلك المحيط. والنعم التي يُنعم بها الله تندفع طافية على سطح ذلك المحيط لملاقاة شواطئ الحياة الإنسانية. لكن الوقائع التي تقع في زماننا ومكاننا هي، بالنسبة للحكيم، لاشيء سوى انعكاسات لمد وجزر النعم وخيبات الأمل التي تحدث على سطح ذلك المحيط والتي تقع خارج مجالي الزمان والمكان. وكل من يواجه الذوبان على سطح ذلك المحيط يتحول حالاً إلى الدرة الأم الموجدة للمحيط. فالهجران المطلق لا بد وأن ينتج كسباً مطلقاً.
إن إحدى خصائص الرومي هي أن الرموز التي استخدمها لم تحمل معنىً واحداً فقط، وإنما كانت مليئة بمعانٍ مختلفة. كما يمكن اعتبار أن لهذه الرموز معنىً ايجابياً أو سلبياً. فالنار، على سبيل المثال، يمكن اعتبارها على أنها تعني نار جهنم، التي يمكن إطفاؤها إما بماء الرحمة أو بنور الجود والكرم؛ أو حتى يمكن اعتبارها أنها تعني نار خيبات الأمل التي تقوم بتطهير القلوب. وأينما استُخدمت خيبة الأمل كرمز للعشق الإلهي، فإنها يجب أن تكون نار العشق.
في جميع الأديان، ثمة رموز بعينها تلمح إلى الحقائق الدينية وإلى علاقة الله ومخلوقاته. ومعظم هذه الرموز تلمح إلى الشعائر القديمة والعادات البدائية. وأحد أكثر الأمثلة شهرة لهذه الرموز هو الخمر. ويرسم الرومي مقارنة بين النشوة التي لا توصف والناتجة عن الوجد وتلك التي تنتج عن الخمر. وفي دار البقاء، في ( اليوم الآخر)، فإن الله سيُناول، وهو في هيئة حامل الكأس، خمره العشق إلى الرجل الباكي البعيد عن موطنه، يحن إلى رائحة هذه الكأس، وهو يشير لمخلوقاته بذلك إلى مجاله الأصلي أو الدرب إلى معشوقة. إن هذا العالم هو كالكأس الفارغة؛ وما إن يرى العاشق الكأس حتى يصبح مُنتشياً. لأنه إذا ما أصبح جمال حامل الكأس ظاهراً، وإذا كان ثمة من فرصة للعاشق كي يرشف العشق من شفاه المعشوق، فإن العاشق سيهلك تحت وطأة جلال المعشوق. وحامل الكأس هو صانع موسيقى أيضاً. إنه يعزف على المزمار والناي والقيثارة. والألحان التي تخرج من هذه الآلات هي دائماً ألحان الشوق والحنين. إن الإنسان هو كالقيثارة في يدي معشوقة يعزف عليها أنغام الأسى والحزن؛ أو إنه كالناي في شفتي معشوقة، يستقصي خلود الحنين.
أما المزمار، الذي استُخدم كرمز في العديد من الأديان منذ أيام البابليين القدماء، فقد كان الرمز الأكثر تفضيلاً عند الرومي. وطبقاً له، فإن سقف وأبواب بيت العشق قد صُنعت بكاملها من الأغاني والأشعار. والعاشق القادر على فهم صوت المزمار يستجيب لألحانه وينضم في السماء وهو يطير متألقاً حول النور الخالد للمعشوق الإلهي، ككوكب أو نجم حول الشمس.إننا نجد أعمق المعاني في سماء الرومي وفي كل الرموز ذات الصلة بالسماء. لأن العاشق المتصوف يطير متألقاً إلى الأبد حول مركز واحد فقط؛ إنه يرغب بالاقتراب من هدف واحد فقط ويحاول تقديم سره باستخدام رموز جديدة. وأخيراً يفهم العاشق المتصوف عقم مساعيه الشعرية ويستأنف صمته، وبامتنان صامت يطير متألقاً حول جمال وجلال الله كذرّة حول الشمس. إنه يصغي إلى ما يصل إليه [ من الله]، ويذوب تماماً في حالة حيث لا ذكر فيها ولا متكلم ولا مستمع. وينساب العاشق المتصوف إلى حالة من التحلل وسط كل الرموز من ألوان وأشكال مختلفة، وفي ظلمة النور.
( صاحب الفضل: النشرة الإسماعيلية، كراتشي، باكستان )
منقول عن معهد الدراسات الإسماعيلية
وردة