صاحب الفخامة الجنرال برويز مشرف
الوزراء المحترمين
أصحاب المعالي رئيس وأعضاء لجنة التوجيه
السيدات والسادة المحترمون
السلام عليكم
دعوني أبدأ بالمزيد من الترحيب، وبالتهاني لكل المشاركين في هذا اللقاء الافتتاحي. شرّف صاحب الفخامة رفيق تارار رئيس جمهورية باكستان الإسلامية هذا التجمع بحضوره وبخطابه الذي ألقاه البارحة. كما شرّفنا الجنرال برويز مشرف الرئيس التنفيذي لجمهورية باكستان الإسلامية بمشاركته لنا هذا اليوم، وإننا نتطلع إلى ملاحظاته فيما بعد على البرنامج. إن رغبتهما بالانضمام إلى جلسات هذا اللقاء، وبالتالي دعمهما لمناقشاته تؤكد – بما لا يدع مجالاً للشك – أهمية وإمكانيات البر الوطني في باكستان في هذه اللحظة من التاريخ. وأشكرهما معاً لإدراج هذا المؤتمر على جدول أعمالهما ولاقتراحاتهما القيمة ولتشجيعهما الهام.
كما أود أن أحيّي كل فرد عمل لإنجاح هذا المؤتمر. إن الدعم الكبير الذي تلقاه المؤتمر من أعضاء الحكومة والمؤسسات والأفراد والمنظمات التي تمثل كل فئات المجتمع هو بحد ذاته إنجاز فريد. وبالفعل أتجرأ على القول بأن تنظيم ومسار المؤتمر يمكن أن يكون نموذجاً لطرق جديدة في معالجة العديد من التحديات التي تواجه التغيير الاجتماعي والاقتصادي الإيجابي في باكستان هذه الأيام. إن الشراكة التي تجمع الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني تنطوي على إمكانية عظيمة. إنني معجب بالكيفية التي استطاعت لجنة التوجيه – بمكوناتها المختلفة من حيث الخلفية ووجهات النظر – أن تصل إلى الإجماع على مجموعة من القضايا المعقدة في فترة قصيرة جداً، وأعبر لهم عن امتناني وتهاني الحارة.
وأود أيضاً أن أنوّه بالمتبرعين الذين جعلوا هذا المؤتمر واقعاً. وتستحق وكالة التنمية العالمية الكندية ذكراً خاصاً بالنظر لدعمها الطويل الأجل لمؤسسات المجتمع المدني للتنمية في باكستان، ولدعمها لعمل شبكة الآغاخان للتنمية بشكل عام. شكراً.
إن قيادة لجنة التوجيه الخلاّقة وأوراق البحث الأصلية والممتعة ووثائق المؤتمر الأخرى ومناقشات مجموعات العمل وكلمات خطباء الجلسات الافتتاحية قد وضعت بالتضامن أساساً لتشكيل خطط للمستقبل القريب. وأود أن أضيف دعمي للتوصية الخاصة بإقامة المركز الباكستاني للبر بصفته وسيلة لتحويل بعض العمليات الإجرائية التي وضعها هذا المؤتمر في التنفيذ تحويلها إلى مؤسسات. أنا متأكد أن عمل المركز المقترح سيدفع بالبر في باكستان إلى مستويات جديدة من العطاء، وأشكال جديدة من الفعالية، وذرا جديدة من الإنجازات.
إنني مقتنع بأن الطاقة الكامنة لتنمية مستقبلية لهذه الحركة طاقة هائلة، لأنها تبني على أسس قوية جداً. يشغل مفهوما البر والصدقة مقاماً مركزياً في تعاليم القرآن الكريم، وكتابات العلماء المسلمين وتاريخ وثقافات المسلمين في كل مكان من العالم الإسلامي بما في ذلك هنا في شبه القارة الهندية. إن التكليف الديني الإسلامي الواضح والصريح يقضي بوجوب مشاركتك الموارد مع من هم خارج التزاماتك، والاهتمام بالمحتاجين. ولن أتحدث عنهم في هذا الصباح حيث أنهم تلقوا الاهتمام في كلمات البارحة. ثمة، على كل حال، بعض الجوانب المحددة في تعاليم عقيدتنا تستحق توضيحاً إضافياً. وهذه الجوانب تخص الأساس الأخلاقي لسياسة القرارات الهامة من أجل مستقبل البر والإحسان في باكستان، وواجب ضمان تكامل مؤسسات البر والإحسان.
يجمع رباط وثيق عبر التاريخ الإنساني كلاً من الدين والكرم – هبات الوقت والتمويل والهبات المادية الأخرى- شكلت المؤسسات الدينية والأبنية والنشاطات بؤرة
رئيسية للعطاء الحقيقي في التقاليد الدينية وفي البلدان وخلال جميع مراحل التنمية. كذلك فإن تاريخ الدعم الصدقي للفقراء ولضحايا الكوارث أيضاً له تاريخ واسع وعريق على حدٍ سواء. فقد أنشأ المحسنون في العالم الإسلامي منذ العهود المبكرة وطوروا شكلاً خاصاً هو (الوقف) لمواجهة الحاجات التي تعتمد في تلبيتها على الصدقة على أساس دائم. إن التمويل الإحساني للتنمية الاجتماعية (بصفته متميزاً عن الصدقة) هو ظاهرة حديثة إلى حدٍ ما. وكانت أولى أشكال التمويل تتجه إلى دعم المدارس والمستشفيات غالباً عبر الوقف. أما دعم المؤسسات المهتمة بتطوير الموارد البشرية فجاء متأخراً، ولكنه بدأ ينمو بسرعة.
تشير آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال الإمام علي والعديد من كتابات المفكرين إلى أشكال وأهداف البر والإحسان. فاستعادة الكرامة الإنسانية والمحافظة عليها هي موضوع مركزي. ودعم الأفراد لاستعادة كرامتهم والمحافظة عليها بما يلائم موقعهم بصفتهم خلق الله الأعظم هو أحد الأسباب الرئيسية لفعل الصدقة. ففي تمكين الفرد من تدبير مقاديره ثمة كرامة. وبما أن الحالة على هذا النحو فإن أفضل الصدقات بحسب الأحكام الإسلامية تستطيع أن تذهب إلى أبعد من الصدقات المادية وحدها. فقد تأخذ شكل الدعم الإنساني أو المهني مثل تقديم العلم لأولئك الذين لا يستطيعون الحصول عليه بطريقة أخرى، أو تبادل المعرفة لمساعدة المهمشين على بناء مستقبلهم بشكل مختلف. وهكذا فُهمت الصدقة على أنها ليست محدودة بهبة مادية ولمرة واحدة، ولكن يمكن رؤيتها بصفتها دعماً مستمراً في إطار زمني يمكن أن يمتد إلى سنوات. وهذا يعني أن دعماً طويل الأجل للمؤسسات التي تمكن الأفراد من تحقيق كرامتهم بحيث يصبحون قادرين على دعم أنفسهم بأنفسهم يحتل مكاناً خاصاً بين العديد من أشكال الصدقة في نظر الإسلام.
ثمة وصية أخرى موجودة في القرآن والنصوص الفلسفية الإسلامية لها أهمية بالغة وهي ذات صلة بهذا السياق. إنها التركيز على المسؤوليات الملقاة على عاتق أولئك المسؤولين عن إدارة هبات البر والإحسان والمؤسسات التي تدعمها هذه الهبات. إن الواجب الملقى على الإدارة المسؤولة واجب صريح جداً وهذا مفهوم يمكن أن يقارن بفكرة الإتمان والرعاية باللغة القانونية للعصر الحاضر. إن واجب المحافظة على أعلى مستوى من النـزاهة في إدارة الموارد الموهوبة والمؤسسات المستفيدة منها واجب متجذر في عقيدتنا. إنه ضروري جداً لتحقيق أهداف هذه الهبات، ولإيصالها إلى غاياتها ولتأمين استمراريتها وتنمية عطاءات البر والإحسان ولتحقيق المصداقية في عيون الرأي العام. إن من حق المجتمعات المسلمة الأخلاقي أن تتوقع وتطلب أن تدار هبات البر والإحسان بأعلى مستوى من المعايير الأخلاقية.
تقدم تعاليم الإسلام وتاريخ الحضارات الإسلامية لنا توجيها وتشجعنا لمواجهة التحديات وتبنّي مسؤوليات إدارة عمل البر والإحسان بحيوية فعّالة. ويزودنا العالم الذي نعيش فيه بحوافز إضافية أيضاً. إن الاعتماد على الذات على المستوى الوطني أو المحلي هو موضوع يلقى تأكيداً عظيماً أكثر من أي وقت مضى خلال الخمسين سنة الأخيرة. وهذا تحول مهم عن التفكير التنموي في القرن العشرين حيث كان التركيز على الحكومة والمنظمات العالمية بصفتها مربيات، وندعوها أحياناً "المرضعات" فقد كان المواطنون يوجهون إليها تطلعاتهم بخصوص كل شيء. كما يمثّل هذا التحول ابتعاداً عن العلاقات الخاصة بين دولة بعينها من العالم النامي وأخرى من العالم المتقدم، وحديثها الرنان عن الرعاية وعلاقات الدول المانحة بالقابضة. وإحساسي أن حاجة باكستان اليوم لسرعة تخفيض اعتمادها على الموارد الخارجية، أمر يقدّر عالياً. ويعادل ذلك من حيث الأهمية أن يفهم الشعب ويثمّن متطلبات وعواقب تحويل مسؤولية الخدمات الاجتماعية من الحكومة إلى مؤسسات القطاع الخاص والأهلي أيضاً.
عندما تحوِّل الحكومات مزيداً من مسؤولية التنمية إلى مبادرات الأهالي والقطاع الخاص، يكون على الأقطار تطوير المؤسسة التنموية والاجتماعية القائمة، وإقامة مؤسسات جديدة ومتعددة. إن بناء وتـقوية المؤسسات والحفاظ على استمراريتها يعتمد أساساً على توفر موارد البر والإحسان. وتأمين مثل هذه الموارد على أساس منح متعددة السنوات هو أفضل أشكال الدعم. وهذا يساعد المؤسسات على التخطيط والتطور بأسلوب منظّم، بدلاً من وجود هذه الموارد بصورة متقطعة من عام لآخر.
والقضية التي تواجه هذا المؤتمر هي كيفية دعم توجه هذه الحركة نحو الاعتماد على الذات بشكل مؤثر، وتشجيعها على مستويات الوطن والأهالي والأفراد. إن إشادة مركز للبر والإحسان – كما أوصى بها المؤتمر- خطوة ملموسة في هذا الاتجاه. وستكون الخطوة التالية هي البحث عن أساليب لتقوية البيئة المشجعة على العمل الجاد والمجدي وعن الشروط المنظمة لتحفيز عطاءات البر والإحسان. ومن الأمور الهامة أيضاً خلق فهم كامل عند الجماهير لدور البر في دعم وتطوير نشاطات كانت سابقاً تعتمد على تمويل الحكومة بشكل شامل.
إن اهتمامي الخاص في أعمال التنمية العالمية يعود إلى أكثر من أربعين عاماً. وهذه الخبرة التي تتضمن إقامة وكالات شبكة الآغاخان للتنمية من أجل نقل الدعم العالمي والوطني لنشاطات ومشاريع واسعة الطيف، نتج عنها بعض الدروس الهامة.
الأول هو أن يصبح التمويل بشكل عام في متناول اليد عندما تكون الشروط صحيحة. هذه الشروط هي مؤسسات قوية ومتماسكة ولها قيادة ملتزمة توحي بالثقة وبالاطمئنان، وبيئة قانونية ومنظمة ترحب وتشجع عمل البر والإحسان، وبرامج ونشاطات موطدة على الحاجات والمبادرات المحليّة ومدروسة على أساس أحدث الخبرات وطرق التفكير حيثما وجدت.
الدرس الثاني هو أن العطاء يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة – التمويل والوقت والأفكار والمهارات المهنية. كل فرد يستطيع أن يكون مانحاً ويجب أن يكون كذلك، وليس الأغنياء فقط، ويجب تشجيع كل أشكال التبرع وتقديرها. العمل الطوعي أمر جدّي ويلاقي – ولحسن الحظ – تقديراً وتشجيعاً متعاظمين يوماً بعد آخر وإشارة إلى ذلك حددت الأمم المتحدة عام 2001 بصفته عاماً دولياً للعمل الطوعي.
الدرس الثالث هو أن الأشكال الجديدة أو المواد الجديدة من العطاء يجب ألاّ تكون على حساب الأشكال التقليدية، ويجب ألاّ ينظر إليها بصفتها منافسة لها. إن تقديم المزيد من التمويل للمؤسسات المهتمة بالتنمية البشرية والاجتماعية لا يعني تقليل المنح لأشكال الصدقات التقليدية أو المؤسسات الدينية، هذا إذا كانت تجربة الآخرين دليلاً يقتدى. إن ثقافة عطاء نشيطة مدعومة بمؤسسات مناسبة وبيئة مشجعة تنفع كل المؤسسات التي يمولها عطاء البر والإحسان.
الخبرة العالمية في الدول النامية والمتقدمة تؤكد أن الشراكة التي تضم الحكومة وقطاع رجال الأعمال ومؤسسات من أشكال متنوعة تابعة للمجتمع المدني تمتلك إمكانية هائلة لإيجاد حلول مبدعة لتأمين الخدمة الاجتماعية وتنمية موارد الأمة البشرية. ستظهر مؤسسات جديدة، ويمكن للمؤسسات القائمة أن تتطور وفي بعض الحالات يمكنها أن تتبنى نشاطات في حقول جديدة. سوف تتطور فرص لخلق مقدرة تنظر إلى ما بعد الاهتمامات الضاغطة الآنية، وتواجه المشاكل المزمنة أو الطارئة.
دعونا نحلم قليلاً حول بعض المستفيدين من حركة البر والإحسان الناضجة والحيوية على مدى السنين العشر أو الخمس عشرة القادمة. إن تُزويد مجموعة من الأساتذة الأفذاذ بالموارد لجذب واستبقاء الشباب الموهوبين جداً من الباكستانيين في حقول التعليم والبحث الجادة يمكن أن يصبح مظهراً للجامعات الحكومية الرئيسية، لا لمجرد عدد محدود من المؤسسات الخاصة. إن تمويل البحوث الطبية أومشاكل الصحة والحاجات الخاصة بمختلف مناطق باكستان والتي لا يمكن حلّها بالاعتماد على نظام البحث العالمي، يمكن توفيرها على أساس تنافسي للبحث في الجامعات العامة والخاصة, وفي القطاع التجاري. إن المحافظة على السلامة الثقافية هي قضية رئيسية في العديد من البلدان غير الغربية هذه الأيام. كيف يمكن لهذه الثقافات أن تستمر في الحياة في مواجهة عولمة الاتصالات والموارد الهائلة لعمالقة وسائل الإعلام الغربية؟ يمكن تمويل المؤسسات الثقافية لتطوير مواد من كل أشكال الثقافة الباكستانية تصمم للاستخدام عبر وسائل الإعلام الحديثة والموجهة للجماهير المحليّة والعالمية.
هذه أمثلة قليلة فقط لما يمكن التفكير به في المستقبل. وأنا على ثقة بأن الحاضرين هنا يمكن أن يفكروا بأمثلة أخرى كثيرة. وأظن أنكم جميعاً تعرفون مؤسسة واحدة أو اثنتين على الأقل من المؤسسات الرائعة في هذا البلد التي تقوم بعمل هام ومع ذلك فهي ضعيفة بسبب الحاجة إلى تمويل داعم أفضل. هذه المؤسسات أيضاً جديرة بالاستفادة من نظام البر والإحسان المتطور.
ومن المهم الإقرار بأن الحاجات ستتغير لأن الظروف نفسها ستتغير بالتأكيد. إن خبرة شبكة الآغاخان للتنمية في منطقة شمال باكستان تؤكد أن الخدمات الاجتماعية وحاجات التنمية اليوم تختلف كثيراً وجداً عمّا كانت عليه منذ خمسة عشر عاماً. إن لدى مؤسسات البر والإحسان الفرصة، - بل أفضل أن أقول المسؤولية - لكي تكون مراقِبة للميول والتوجهات ولتتكهن بالحاجات الطارئة. إنها تستطيع دعم النشاطات التي تركّز على نوع من متطلبات الأمة الطويلة الأمد التي يصعب على الحكومة أخذها في الاعتبار، بسبب دور الحكومة الواسع والعميق في التعامل مع ضغط مسؤولياتها اليومية ومن جميع جوانبها.
لكن دعونا الآن نعود إلى الحاضر. بالنظر إلى ما استطاع هذا المؤتمر إنجازه فإني متشجع جداً حول مستقبل البر الوطني في باكستان. فلدى الحركة أساس راسخ لتبني عليه. إن العطاء بجميع أشكاله الآن أعلى كثيراً مما كان من الممكن تخيله. إن تعهد توسيع وتطوير عمل البر والإحسان يتطلب انتباهاً مستمراً وجاداً. إن مصدر الاطمئنان والإلهام هو أن القواعد الأخلاقية للبر منذ أيام نزول الوحي وعبر التاريخ الإسلامي، تلك القواعد تعطي الشرعية لتطبيقات منح الصدقة التي كانت موضوع هذا المؤتمر. وهذا مهم جداً لنا نحن المسلمين في هذا البلد وفي كل مكان آخر في الأمة الإسلامية. أنا متأكد أنه بعد أعوام من الآن سنكون قادرين على الالتفات إلى هذا الاجتماع بصفته شيئاً ذا أهمية بالغة في تطوير الاعتماد على الذات والاستدامة لهذه الأمة ولجميع أبنائها.
أنتم وأنا سنقدّر في حضور الجنرال مشرف الأهمية التي يوليها لموضوع هذا المؤتمر ورغبته في دفع جدول أعماله إلى الأمام. أشكره على مشاركته لنا وأتطلع لسماع ملاحظاته باهتمام كبير.
شكراً.