تصحيح رواية عطا ملك الجويني
كانت الهجمات المغولية حدثاً فريداً في التاريخ الإسلامي. دفعت أحداث هذه الكارثة الفظيعة الكتّاب الذين عاصروها لتوقع نهاية مؤلمة قريبة للعالم.9 شهد ابن الأثير نفسه الدمار الذي أوقعه المهاجمون السالبون وقدم لروايته عن هجومهم كما يلي:
"لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استفظاعاً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى. فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن ذا الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً إلى أن حثتني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً. فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين. فلو قال قائل إن العالم منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتَلُ بمثلها لكان صادقاً. فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها."10
يقول مورجن Morgan ليس من المصادفة أن يجعل الجويني فتح المغول لألموت ذروة كتابه تاريخ فاتح العالم. وبصفته مسلماً سنياً غيوراً كان من الصعب عليه أن يحتفل بتدمير إخوانه في الدين على يد سيده الوثني، والذي انضم إلى حاشيته وخدمته وهو شاب يافع. وهكذا كان يسعى جاهداً ليجد خيوطاً فضية في غيوم المغول."11 وأي عمل أفضل لديه من الاحتفال بنصر سيده على "زعيم المارقين"، وهو الشيء الذي لم يستطيع السلاجقة القيام به؟ 12 ومع أن الجويني شهد الهجمات المغولية فإنه أورد في سرده ما يناسب أهدافه فقط. ثمة العديد من المؤلفين من دي أوهسن d'Ohsson أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى ديفد أيالون David Ayalon مؤخراً عابوا بشدة رواية الجويني ووصفوها بأنها "تملق مسرف" للمغول، وعنفوه باعتباره "خانعاً" وحتى مقرفاً.13 أما إدوارد براون المتسامح قليلاً فيرى أن ظروفه فرضت عليه "أن يتحدث بلطف عن البرابرة الذين فرض عليه حظه أن يخدمهم".14
بدون شك إن ما حذفه عن قصد من كتابه الضخم عن فتوحات المغول هو تجاهله لذكر حقيقة أن المغول نهبوا بغداد وقتلوا آخر الخلفاء العباسيين عام 656 هـ/1258 م، فقد لفوا الخليفة في سجادة ثم جعلوا الفيلة بكل استهتار تدوسه حتى مات.15 بينما أعطى لسقوط الإمارة النزارية الإسماعيلية بروزاً كبيراً يشكل حجر الزاوية في سرده.16 كما ألف الجويني نفسه فتح نامه أو إعلان النصر في هذه المناسبة.17 ونحن نتساءل مع ذلك إن كان سيده يشاركه كرهه الشديد للنزاريين الإسماعيليين. ففي الحقيقة يبدو موقف هولاكو غير واضح في بعض الأحيان. فثمة حالات بدا وهو يعامل الإمام الإسماعيلي بشكل مختلف كثيراً وينظر إليه باهتمام ولطف بل وقدم له الهدايا الوفيرة.18
وللأسباب نفسها التي جعلت الجويني يقلل بشكل حاد من شأن خراب شنششخراب العالم المسلم السني، فإنه يحتفل بانتصارات المغول على الإسماعيليين. فيعلن قائلاً: "لقد وضع أبناء وبنات وأخوة وأخوات وجميع أفراد عائلة الإمام الإسماعيلي الأخير في ألموت ركن الدين خورشاه في نار الفناء"،19 وهكذا وبشكل منتصر أعلن في ختام تاريخه: "ألقي هو وأتباعه أرضاً واشبعوا ضرباً ثم وضع السيف فيهم؛ ولم يبق منه ومنهم أي أثر، وأصبح هو وأقاربه مجرد حكاية على شفاه الرجال وحديث في العالم."20 بينما لا يوجد شك في أن الجماعة أُنهكت - فنحن نعلم بشكل مستقل من تاريخ طبرستان مثلاً أن خراسان بخاصة امتلأت بالأسرى الإسماعيليين نساء وأطفالاً وبيعوا كعبيد – أي أن هذا الخراب لم يكن كلياً.21
يخبرنا رشيد الدين فضل الله أن قلعة جيردكوه استطاعت أن تصمد لمدة عشرين عاماً تقريباً تحت ظروف حصار قاسية جداً، ولم تسقط حتى عام 669 هـ/ 1270م، وذلك بعد سقوط ألموت لما يزيد عن عقد من الزمن.22 وفي ذلك العام جرت محاولة نسبت إلى النزاريين لقتل عطا ملك الجويني نفسه الذي كتب منهياً وجودهم قبل أكثر من عقد. وهذا يؤكد بقوة أن شهوداً معاصرين لا يزالون يرون أن الإسماعيليين قوة يجب أن يحسب حسابها، ولم يكونوا مقتنعين بنهايتها على يد المغول.23
يخبرنا كل من حمد الله مستوفي (توفي 750 هـ/ 1349 م) وفصيح خوافي (ولد 777 هـ/ 1375) أنه بعد وقت قصير من سقوط قلعة جيردكوه قامت مجموعة من الإسماعيليين بقيادة ابن خورشاه وكان لقبه نو الدولة أو أبو الدولة وتدبرت شأن استعادة ألموت عام 674 هـ/ 1275م.24 استعادة العلقة على يد ابن الإمام ركن الدين خورشاه بالتعاون مع أحد ذرية خوارزم شاه قادت رابينو ليؤكد: "يعتقد بشكل عام أن سقوط قلعة ألموت عام 654 هـ 1256م يحدد نهاية توسع الإسماعيليين في جيلان. وهذا خطأ فاحش. فإما أن تخريب ألموت لم يكن تاماً كما أخبرنا الكتاب الفرس أو أن العلقة أعيد بناؤها.25
هذا الحدث الذي تدخل فيه ابن الإمام ركن الدين خورشاه يجبرنا على طرح إعلان الجويني جانباً بأن المغول قضوا على كامل العائلة "حتى الطفل في مهده". فيكشف الفحص الدقيق لتاريخ فاتح العالم تهالك شهادة الجويني وسوء قصده، وبشكل خاص عندما يتعلق الموضوع بإشارة إضافية بأن الإمام ركن الدين خورشاه له ولد واحد فقط – "بعث ابنه الوحيد وأخاً آخر لركن الدين يدعى إيران شاه مع جماعة من نبلاء ورسميين وقادة جماعته."26
سبق هذا الإعلان المحوري ذكر الجويني أن ابناً للإمام ركن الدين أرسل مع مجموعة من الرسميين الكبار لينضموا إلى خدمة هولاكو. ثم يخبرنا أن القائد المغولي توقع أنه وقع ضحية حيلة حيث أن صبياً من عمر الابن الحقيقي أرسل بدلاً عنه، برغم التأكيد بعكس ذلك. ويبدو أن هذا التخوف كان مصدره الجويني وليس هولاكو. عامل الفاتح المغولي الولد بلطف وسمح له بالعودة بعد اتفاق يقضي بأن يأخذ مكانه أخو الإمام شيران شاه.27 وفي رواية رشيد الدين لهذه الواقعة ذاتها، لم يوافق الجويني في قضية التشكك بهوية الصبي.28 ويبدو أن رواية رشيد الدين أكثر مصداقية. كان الجويني مقتنعاً بأن وزراء الإمام ومستشاريه خُدعوا ولم يكونوا واعين بأن الصبي لم يكن الصبي الحقيقي، وهذا احتمال نادر.29 فالجويني ورشيد الدين كلاهما يذكر أن الصبي كان في السابعة أو الثامنة من العمر.30 لو كان هذا الصبي الذي أُرسل إلى هولاكو بالفعل شبيهاً لكان الأمر تهوراً كبيراً ذلك أن يرسل صبياً كهذا يمكن بسهولة أن يقر بحقيقة هويته عند التحقيق معه.
يذكر الجويني ورشيد الدين كلاهما أنه عندما سقطت قلعة ميمون دز عام 654 هـ/ 1256م أرسل الإمام ركن الدين خورشاه ابناً آخر له إلى هولاكو بصحبة عمه إيران شاه وبعض نبلاء ورؤساء الإسماعيليين.31 ومن الواضح أن هذا الابن لم يكن الصبي نفسه الذي أرسل في وقت سابق، والجويني واثق من ذلك.32 ويضيف رشيد الدين تفصيلاً مهماً إضافياً بأن اسم هذا الابن كان تاركيا.33 وبهذا يكون للإمام خورشاه ولدان على الأقل. وهذا ما أكده الجويني نفسه الذي ناقض شهادته بأن للإمام ولداً واحداً فقط حين كتب عن "أبناء وبنات وأخوة وأخوات ركن الدين"،34 في مكان ما، ومرة أخرى يذكر "أخوته وأبناءه وأهله وعياله"35 في مكان آخر.
لا يمكن التأكد بدون معلومات إضافية إن كان اسم ابن الإمام خورشاه والذي استعاد ألموت هو أبو الدولة أو نو الدولة؟ حسب مصادرنا هو نفسه تاركيا، الصبي الذي أرسل مع إيران شاه أم شخص آخر من ذرية الإمام. فإذا كان تاركيا أو الابن الآخر الذي أرسل مع إيران شاه فإن ذلك يعني أنه كان في العشرينيات من عمره عندما قاد أتباعه للنصر واستعادة ألموت. وبغض النظر عن هوية هذا القائد الابن فمن المحتمل أنه كان يافعاً جداً لاسيما في وقت كان فيه الإمام خورشاه نفسه في أواخر العشرينيات من عمره عندما بدأ الهجوم المغولي، وقد أشير إلى شبابه في العديد من الأماكن.