المجلس السادس والعشرون من المائة الرابعة:
الحمد لله مخاطب أولي الألباب في نص الكتاب، وجاعل العقل مميزاً بين الخطأ والصواب، الذي إذا توجه الفكر لتحقيق معرفته عاد مقطوع الحيل والركاب، وصلى الله على أشرف ذوي الأحساب والأنساب، محمد الناطق مما وراء الحجاب، وعلى وصيه الذي أتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، علي بن أبي طالب أسد يوم الطعان والضراب، وعلى الأئمة من ذريته السادة الأنجاب، نجل من ردت له الشمس بعد الغياب.
معشر المؤمنين: جعلكم الله له م من خير الأصحاب وألحقكم بالطاهرين الأطياب.
اعلموا أن للدين ثلاثة قواعد ضمنها الله سبحانه آية واحدة في نص الكتاب فقال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء: من الآية59)..
فطاعة الله لازمة لازمة للخلق عموماً، وكمثلها طاعة الرسول لازمة للخلق عموماً، وعلى هذه السياقة فينبغي أن تكون طاعة أولي الأمر لازمة للخلق عموماً، وها هنا شرط آخر معلوم، أن طاعة الله تمتنع إقامتها إلا أخذاً عن رسوله، وعلى هذه السياقة فتمتنع طاعة الرسول بالحقيقة إلا أخذاً عن أولي الأمر، ليقع التقابل بين الجميع وليكونوا على حدّ سواء.
ثم نقول في قوله: "أولي الأمر منكم" بعد استفتاحه بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" أن: أولي الأمر معناه أمراء المؤمنينن، الذين واحدهم يدعى أمير المؤمنين، وما ينبغي أن يكون في الأرض من يدعى أمير المؤمنين إلا رجل واحد، تكون الأمراء في الأرض مولّين من جهته، وقائمين بفرض طاعته، والقضاة يقضون بأمره، والخطباء وأئمة المحاريب من جهته.
وقد قالت فرقة قصدت لبس الحق بالباطل، والعدول بالناس عن قصد السبيل إلى المجاهل أنه عنى بأولي الأمر "الأمراء"..
وقد قالت طائفة أخرى منهم: بل أراد بهم "العلماء".. وليس كلّ من قام بنفسه متأمّراً، واستتبع قوماً، فإن الله تعالى يفترض طاعته، ولا كلّ من حفظ عشر مسائل من العلم والفقه يفترض الله طاعته، مع علمه بكون هؤلاء الأمراء مختلفين في مقاصدهم، والعلماء مختلفين في مذاهبهم يكفر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً.
وكيف تجب الطاعة على من لا يدري أيّهم أحقّ بالطاعة، والإتباع لمن هو أولى باتباعه، حاشا لله أن يفترض طاعة من هذه سبله، وإذا كانت الصورة هذه فالعلماء والأمراء المشار إليهم ممتنع من هذا القول، وإذا كان "أولو الأمر" هم الأئمة من آل الرسول صلع خاصة دون الفريقين المذكورين.
ثم شيء آخر: ينبغي أن يكون له "ذا الأمر" المبارك المذكور، إسناد يستند إليه وعماد يعتمد عليه، فنرجع إلى أول الحال ونقول: أن أول "أولي الأمر" هو الرسول، يقول الله تعالى فيه: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا"(الشورى: من الآية52)..
وقال في موضع آخر: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"(لنجم:4:3)..
وقال تعالى: "وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً"(الأحزاب:46)..
وقيّده بقوله تعالى: " بِإِذْنِهِ". نبين بذلك أن دعوته ليست من تلقاء نفسه، كما يدعو الداعون، إنها بإذن الله وأمره، فهذا ما يجري مجراه إسناد رسول الله صلع في كونه الآمر والناهي في خلق الله وعبيده.
ثمّ إن نصّه على عليّ بن أبي طالب صلع يوم الغدير بقوله للناس مذكراً له م بقول الله تعالى: " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ"(الأحزاب: من الآية6)..
فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ !
قالوا: بلى يارسول الله.
قال: اللهم أشهد عليهم "ثلاثاً" ثم قال: (فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)..وباقي الخبر..
فهذا اسناد عليّ صلع في كونه صاحب الأمر بعد رسول الله صلع.
والحسن والحسين اسنادهما في كونهما من "أولي الأمر" نصّ النبي صلع بقوله: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".
ثم نصّ عليّ صلع على الحسن بعده، ونصّ الحسن على الحسين بعده، ونصّ الحسين على عليّ زين العابدين بعده، ونصّ عليّ زين العابدين على الباقر بعده، إلى الصادق إلى ولده اسماعيل صلع، إلى ولده محمد السابع ع م، فهذا اسنادهما في كونهم "أولي الأمر".
فأما الثلاثة المستورة لسرّ أوجب الله له سترهم، فهذه السياقة سياقتهم في نصّ بعضهم على بعض إلى أن ظهر المهديّ ع م بسيفه المشهور وملأ صفحة الأرض بالنور فنصّ على قائمه ونصّ قائمه على منصوره ونصّ منصوره على معزّه صلع.
ونصّ معزّه على عزيزه، ونصّ عزيزه على حاكمه، ونصّ حاكمه على ظاهره، ونصّ ظاهره على صاحبكم، الذي هو بين ظهرانيكم.. فهذا إسناد من يستحق أن يكون من "أولي الأمر"..حبل طرفه بأيديكم والطرف الآخر بيد رسول الله المستند إلى الروح الأمين إلى رب العالمين، فهذه أعلام "أولي الأمر" الذين أتاهم الله فضلاً وجلالاً، هكذا هكذا وإلا فلا..وسوى هذا فليس يخلو من كون "أولي الأمر" المقرونة طاعتهم بطاعة الله ورسوله موجودين أم غير موجودين.
فإن كانوا غير موجودين وهم بشيء ممن خُلِقَ يمكن أن يوجد في كل زمان منهم واحد، فلم يوجدهم، وفرض طاعة قوم لا تقوم منهم قائمة عين ولا أثر، فما الذي يؤمننا أن يكون ما وعدنا به في الغيب من الجنة وتوعّد العاصين به من النار سقيماً غير صحيح وباطلاً غير حقّ، وهل في ذلك إلا دلالة على بطلان ما قاله كلّه، إذا أخلفنا موعده في الشاهد الحاضر الممكن ؟ !!...حاشا الله تعالى من المين والكذب، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
وإن كانوا موجودين فمن أولى أن يكون من أولي الأمر صاحبكم الذي إسناد أمره متسلسل واحد بعد واحد، إلى رسول ربّ العالمين، والقوم الموسومون برسم الإمامة فواحد منهم عباسيّ نصّبَ أباه للخلافة رجلٌ ديلميّ، فهو كما قيل شعر:
أرنـب يبـول الثعلبـان برأسـهلقد ذُلّ من بالت عليه الثعالب
وقد أحد دعاتنا بالشرق التقى بهذا الديلميّ فتردّد بينهما الكلام.
فقال الديلميّ: عجباّ لقوم كانوا يتخذون أصناماً من فضّة أو ذهب أو غير ذلك ثم يجعلونها قبلةً له م ؟!!
فقال الداعي: أيها الملك، أنكِر على نفسك ما أنكرتَه على غيرك، إنه ما تجاوزك سمعك وأنت كما قال الله تعالى صلع: "قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ"(الصافات:95).
أليس هذا الخليفة الذي بالأمس أجلسته هو هو الصنو الذي نحته وجعلته قبلتك؟!
فهذا ما يتعلق بهذا الواحد.
ومعلوم أن العباس ع م الذي هو عمّ رسول الله صلع، ما ادعى في الخلافة شيئاً، فكيف يدّعيها أبناؤه وكبيرهم ومقدّمهم هو الذي أجلسه أبو مسلم الخرساني فهذا واحد قد تفلس من استحقاق الخلافة..
والثاني هو من يتوقّع طلوعه من السرداب، وليس يخلو حاله من كونه بشراً إذا أكل وشرب لإنتسابه إلى بشر آكلين شاربين.. فإن كان في هذا الأسلوب كانت الضرورة تؤدي إلى قصر عمره، وحضور أجله منذ زمان..
وإن كان في غير أسلوب البشرية، فما ينبغي أن يكون غير بشر من نسل البشر، وإذا كانت أيدي الحدثان عنه مغلولة، فما الذي يقتضي لزوم الستر والكتمان فهذا محال مستحيل...
وأما الثالث الذي هو صاحبكم فإن آباءه الطاهرين هم الجامعون في الإمامة بين جسمها واسمها والمرتسمون برسمها والمتوسمون بوسمها الذين نادوا ب (حيّ على خير العمل) على المنابر، وطرّزوا بذكر عليّ وفاطمة وولدهما فروق المنابر، فما أطلعت شيعة على الذين كانوا تواروا بالحجاب إلا بهم رؤوسها، وما قوّى غير عزائمهم نفوسها، وقد صار قوم يطلقون فيه بالمعيب الألسن وهو المسؤول عنهم وعن أفعالهم ليس هم المسؤولون عنه وعن أفعاله إذ كان حسابه على ربّه، وهم أحد ضربين: أما أن يتمكنوا بإمامته فيكونوا كما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلع في بيت له:
صبرتُ على بعض الأذى خوف كلهِوألزمـتُ نفسـي صبـرَهـا فاسـمـرَّتِ
وأما أن يدفعوا كتاب ربّهم بالراح، ويتخلّوا عن حقّه الصراح إذ قال تعالى: " أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ"
وما خلقهم فمناهم غروراً وما يؤمنهم أن يكون ما ضمنه كتابه من غير كذباً وزوراً، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، أعاذكم الله تعالى من الهيمان في وادي الضلال، وجنبكم مصرع أهل الزيغ الخاسرين لنفوسهم في المآل والحمد لله واعد الخير للصابرين على البأساء والضراء الباذل له م حسن الجزاء في دار الجزاء.
وصلى الله على رسوله محمد سيّد الأنبياء وصفوة الأصفياء وعلى وصيّه سيّد الأوصياء عليّ كفو فاطمة الزهراء وعلى الأئمة من ذريته الأوفياء الأذكياء وسلّم تسليماً حسبنا الله ونعم الوكيل.
[img]