لطالما أكدت الدراسات على أهمية الرعاية الوالدية والمشاعر الموجهة نحو الطفل في تحديد شخصيته منذ مراحل الطفولة الأولى.. فبناءً على الأسلوب الذي يتخذه الآباء في اشباع حاجات أطفالهم، يمكن ان تنمو لدى هؤلاء الآخرين إما ثقة متزايدة في ان حاجاتهم سوف تشبع، وإما انعدام تام لهذه الثقة، وفيما بين هذين الطرفين توجد بالطبع درجات مختلفة، ونستطيع ان نستشعر مدى ثقة الطفل في انه مقدر من خلال الدفء والمرح اللذين يشبعان في تعامله مع أعضاء أسرته.. فإحساس الطفل بالثقة ما هو إلا حالة انفعالية تساعده على الشعور بالتوحد مع البيئة المحيطة.. ولا بد ان نشير هنا إلى ان مفهوم الثقة بمعناه الواسع لا يقتصر على ثقة الطفل بمن حوله فحسب، بل يتضمن أيضاً ثقته بنفسه وبمقدرته وكفاءته، وهذا ما ينعكس على نموه بشكل سوي، او نشوء ما يعطل ذلك النمو، ليس فقط من نواحي الشخصية، بل أيضاً في النواحي المعرفية.. وهذا يتأثر حكماً بنوع العلاقة العاطفية بين الطفل والوالدين منذ الشهور الأولى من الحمل، والتي قد تتراوح بين مشاعر الحب والترحيب بولادته، وبين الرفض في حال لم يخطط الوالدان لقدومه او فوجئا بالحمل. والناشىء الذي خرج مرفوضاً من طفولته يحمل العديد من ضروب الكآبة المرة والغم الدائم، فهو نشأ في وسط يعوزه العطف.. والواقع ان ازدياد رفض الوسط للطفل يقلل من أثر المبادرات الودية تجاهه، وقد تظهر حساسيته للنقد في سلوكه «فترة المراهقة»، وما هي إلا الآثار اللاحقة لمواقف الرفض خلال فترات العمر المبكرة.. فنرى ان تحذيراً بسيطاً من جانب المعلم يثير في المراهق الناشىء في وسط رافض جرحاً عميقاً، في حين يتقبل أقرانه التحذير نفسه بروح نقدية سمحة. وليس من المستبعد ان يحسد الناشىء المحروم او المرفوض رفاقه ويغار منهم ويتمزق إن أعار الناس اهتماماً كبيراً لأحدهم، فنجاح الآخر ومديحه يشكلان تهديداً مباشراً له ويذكيان فيه الإحساس بالضعة والتفاهة والشك بإمكاناته الخاصة.. وقد يمتنع هذا الناشىء عن توجيه الأسئلة إلى الآخرين خشية منهم ومن احتمال تأنيبهم له، وهذا الوضع قد يفسر ظاهرة التفوق او التخلف المدرسي.. فالمرفوض الذي أخفق سابقاً في تحقيق توقعات والديه منه، يرى نفسه يقف عاجزاً عن تحقيق توقعات معلميه، والاخفاق يتأكد في المدرسة التي تحابي اعتباطياً بعض المتميزين ببعض الصفات والخصائص،وتضطهداعتباطياً أيضاً آخرين ممن يملكون صفات وخصائص مضادة، وذلك وفق منحى التوزيع الاعتيادي للمتعلمين واصطفائهم دون النظر إلى احتمال نجاح المخفقين دراسياً في مجالات أخرى. وهكذا نرى أهمية الدعم العاطفي الذي يرد الإنسان، في جعله أقدر على مواجهة مطالب الحياة، إذ ليس ثمة كائن إنساني قادر على ان يعيش في غنى عن عطف الآخرين وحنانهم، فحاجة الفرد للتعاطف مع الآخرين تتعمق في كل من الطفولة والمراهقة، وتبقى الحاجات الأساسية للراشد.. وخلف الواجهة الثورية العنيفة في كلٍّ من الطفل والمراهق والراشد، تقبع حاجة إنسانية لتلقي الحب من الآخرين وتقديمه لهم دونما حساب.