منتدى الباحث الإسماعيلي موقع شخصي وغير رسمي |
المواقع الرسمية للاسماعيلية الآغاخانية | |
|
| لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
مهند أحمد اسماعيل مشرف عام
عدد الرسائل : 4437 العمر : 49 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
| موضوع: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الخميس أغسطس 06, 2009 6:33 am | |
| يطرح الكاتب في هذه المقالة الصغيرة والهامة، سؤالاً: "ما هو التاريخ؟" وكيف تفيد دراسة التاريخ مجتمعاً ما في زمن ما؟ بالانتقال وبعيداً عن تعريف التاريخ على أنه "وقائع وحقائق عن الماضي"، فإن المقال يحاول أن يعرض كيف يؤثر التفسير والمؤرخ نفسه في كتابة التاريخ. ويختتم المقال بمحاولة إظهار أهمية التاريخ في حياة المجتمع، وكيف أن التاريخ ذاته يساعد في تعزيز الشعور بالفهم والهوية. ويتعرض الكاتب في بضعة مواقع إلى تجربة المجتمعات الإسماعيلية، بما أن المقال قد نشر في مجلة الإسماعيلي، وكثيراً ما يقتبس المؤلف أمثلة من التاريخ الإسلامي. لكن هذه المراجع توضيحية أكثر منها رئيسية، والهدف من هذا المقال هو إلقاء الضوء على أهمية التاريخ بحد ذاته، من حيث القضايا والمواضيع ذات الفائدة والاهتمام بالنسبة لكل المؤرخين الذين يَظهرون كأنظمة في مهنتهم. | |
| | | مهند أحمد اسماعيل مشرف عام
عدد الرسائل : 4437 العمر : 49 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
| موضوع: رد: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الخميس أغسطس 06, 2009 6:34 am | |
| مقدمة
من بين كل المواد التي تدرس في جامعاتنا فإن التاريخ هو الأقل فهماً بالشكل الصحيح والمناسب. يشهد كل شهر مقدارا ًوافراً من كتب النصوص التاريخية المدرسية، والمجلدات وكتب الأغلفة الورقية تغمر الأسواق. ومع ذلك نادراً ما يُفهم هذا الموضوع، في أي عمق له، لا من كلٍّ من المفكرين ولا من عامة الناس. وهذا ما يثير الدهشة، لاسيّما وأن التاريخ هو دراسة قديمة ٌ جداً. مع ذلك فإن قـِدَمَهُ الشديد جعله عرضة للإهمال وسوء الفهم. ويتبين هذا القصور في طرق متنوعة. ويظهر بعض الناس في أحسن الأحوال تحملاً مكثفاً نحو المؤرخين المحترفين. بينما يتعلق بهم آخرون على أنهم أناس ذوو ذاكرة عظيمة. وغايتي في هذه المقالة أن أناقش طبيعة التاريخ وفوائده. لذلك سأحاول الإجابة على سؤالين أساسين: ما هو التاريخ؟ وكيف تفيد دراسة التاريخ مجموعة من الناس في فترة معينة من الزمن؟ ستستمد أمثلتي من التاريخ الإسلامي بشكل رئيسي. وفي النهاية سأُقدِّمُ بضعة ملاحظات عامة عن سبب اعتقادي بأن لدراسة التاريخ مكانة خاصة في مجتمعنا حالياً.
مقومات التاريخ
أولاً، طبيعة التاريخ. ما هو التاريخ؟ إن الجواب الذي سنُقدِّمَهُ رداً على هذا السؤال سيوضِّح وسيعتمد على الأهمية التي نربطها بالتاريخ في حياتنا، وهذا بدوره سيُلقي الضوء على الآراء والمواقف الفلسفية العامة التي تحكم حياتنا. وجواب معظم الناس على هذا السؤال هو: إن التاريخ دراسة الوقائع عن الماضي". وبالنسبة لمعظم الناس سيأتي هذا الجواب بشكل تلقائي وفوري. والآن دعوني أوضِّحُ المسألة بشكل مباشر أنه بالنسبة لذهني وللكثيرين من الذين قد أعطوا الموضوع بعض الاهتمام، فإن هذا التعريف غير ملائم ومضلـِّل في أنٍ معاً. فهذا التعريف يتضمن فكرتين خاطئتين ناتجتين، من المصطلحين: "حقائق" و"ماضي" . إن كلا المفهومين مضللان، وسأتناول كل واحد منهما على حدة.
بدايات الإسلام: مثال
كبداية، دعونا نولي فكرة "حقائق" بعض الاهتمام. بالنسبة إلى ذلك الصنف من الناس والذي أُبقيه في ذهني (والذي أنتقد فكرته عن التاريخ)، فإن "الحقائق" التاريخية هي من نفس الترتيب كتلك المشمولة، على سبيل المثال، في القول أن فلان عمره طويل، أو أن السيد فلان هو رئيس البلد الفلاني، مع اختلاف وحيد وهو أن الحقائق التاريخية تخصُّ الماضي وليس الحاضر. ينظر مثل هذا النوع من الأشخاص إلى الحقائق التاريخية وكأنها وُضعت على نحو ملائم من قـِبَل ِ مؤرخ إنكليزي، كما "الأسماك على طاولة بائع السمك". كلها موجودة هناك مرتـَّبة بعناية، معدودة، مرئية بوضوح لإظهار ما هي عليه، وهي جاهزة للتسليم. أما في الوقت الحاضر فإن الوقائع التاريخية غالباً ما تكون أكثر تعقيداً بكثير، وأقل وضوحاً، وفي حالات كثيرة، غير واضحة أو مؤكدة. وأكثر من ذلك، فإنه ليس صحيحاً أنه كلما قرأت كتباً تاريخية أكثر، أدركت بأنه لا يستشهد كل المؤرخين بنفس الوقائع. وهذا ليس بالضرورة أن أحد المؤرخين يعرف أكثر أو أقل من آخر – ولو أن هذا قد يكون صحيحاً من حين لآخر – ولكن لأن مختلف المؤرخين يربطون المعاني المختلفة بالوقائع المختلفة. إذاً، غالباً ما يجد المؤرخ نفسه أمام عدد كبير من مجموعات الوقائع. ومن أجل أسباب تتعلق بالإيجاز والاختصار، إن لم يكن لأجل شيء آخر، فإن المؤرخ يكون مجبَراً على طرح أو إغفال بعض الحقائق المتوفرة عند القيام بعملية الانتقاء. وعند قيامه بهذا فإنه لابد من أن يدخل تحيزه التفسيري في العملية. ويمكن إيجاد مثال توضيحي مثير عن هذا في تاريخ نبي الإسلام.
كما هو معروف، فإن النصف الأول من رسالة النبي قد أُنزل في مكة. لكن، لماذا أزاح دين الإسلام الجديد العبادة القـَبَليَّة القديمة للأصنام والآلهة المضَلـِّلة أو ألقى عليها بظلال قاتمة؟ يمكن لهذا السؤال أن يبرز في ذهن أي مؤرخ يحاول أن يفهم كيفية نشوء الإسلام وانتشاره. يعتقد بعض المؤرخين اليوم أن الأديان القديمة قد توقفت عن إرضاء الحاجات الروحية للقبائل الرحل. كانوا يبحثون بدأب عن دين جديد ليعطيهم وحياً متجدداً وشعوراً قوياً بالروح المعنوية. وقد قدّم الإسلام لهم شعوراً بوجود غاية أو هدف. بينما ارتأى آخرون أن نشوء الإسلام وارتقاءه كان يعززه نمو وازدياد الشعور بالعزة والفخار الموجودين في التقاليد العربية، كما هو واضح في شعر الجاهلية. هذا الكبرياء الذي ظهر كردَّة فعل تجاه الغارات المتلاحقة من قِـبَل ِالغرباء.
يؤكـِّدُ باحث معاصر في الإسلام، وهو مونتغمري واط، على شكل آخر للوضع. وقد أشار بأنه كانت تنشأ في مكة (الجاهلية) طبقة جديدة من التجار كنتيجة لتجارة القوافل التي كانت مدينة مكة مركزاً لها. كانت هذه الطبقة جديدة، وكان من الواضح أنها مستقلة ومنفصلة عن قبائل الصحراء المتنقلة. لكن التجارة ملائمة لتعزيز مذهب الروح الفردية، ويعتقد واط بأن تجار مكة كانوا يطوِّرون طريقة فردية ومستقلة للحياة والتي كانت في تباين حاد مع الأخلاق القـَبـَليـَّة التقليدية، حيث كان التأكيد منصبـَّاً على المساعدة المتبادلة والتضامن المشترك. بإمكانك أن ترى كيف أن هذه التفسيرات المختلفة أدت إلى التأكيد على وقائع مختلفة. ويجدر بالمؤرخ الذي ظنَّ بأن انتصار الدين الجديد كان نتيجة منطقية لاضمحلال الأشكال القديمة للعبادة، أن يركـِّز على دلائل وبراهين تخصُّ معتقدات ما قبل الإسلام (الجاهلية)، وعلى الأخصِّ، التلميحات الخفية بين العرب التي تدلُّ على الاستياء من هذه المعتقدات. أما بالنسبة للمؤرخ الآخر الذي قد يكون ميـَّالاً إلى تعليق أهمية كبيرة على مسألة نمو الوعي العربي على أنه العنصر الأساسي في الإسلام، فإنه سينقاد وبشكل طبيعي إلى التأكيد على مسألة الشعور بالفخر والعزة المرسوم والمصوَّر في شعر الجاهلية، أي ما قبل الإسلام. أيضاً سيلفت الانتباه إلى أنه قد كانت هناك غزوات متكررة على العرب من قـِبـَل ِ الرومان، الفرس والأحباش. علاوة على ذلك، فإنه سينزع إلى إعطاء أهمية خاصة للممالك العربية المستقلة مثل النبطيين والتدمريين الذين، كما يضيف في نقاشه، عكسوا بين العرب إحساساً بالاستقلالية قبل فترة طويلة من ظهور الإسلام، والذي رسم له الإسلام ذروة ثابتة. ومن جهة أخرى، فإننا نجد أن مونتغمري واط قد صدم بشكل خاص بحقيقة أن القسم المبكـِّر من رسالة النبي محمد تتألف من إشارات متكرّرة إلى المبادىء الأخلاقية الاجتماعية مثل: الصدق في العمل، احترام المرء لكلمته، وروح الزمالة والأخوّة، الخ.... . بالنسبة لمونتغمري واط، فإن حقيقة أن الآيات المكيـّة في القرآن تتضمن إشارات متكررة إلى هذه القيم ما هي إلا حقيقة تاريخية تخدم نظريته القائلة بأن نمو وتطور الفردية التجارية في مكة كانت هي العامل الأساسي في نشوء الإسلام. وهكذا، فإن المؤرخين المختلفين ينتقون ويؤكـّدون على وقائع مختلفة، ليس لأن قدرتهم على جمع الدلائل مختلفة، بل لأن تأويلاتهم وتفسيراتهم للأحداث مختلفة. | |
| | | مهند أحمد اسماعيل مشرف عام
عدد الرسائل : 4437 العمر : 49 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
| موضوع: رد: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الخميس أغسطس 06, 2009 6:35 am | |
| الفتوحات الإسلامية: مثال اخر
يُـعدُّ عنصر التفسير شيئاً أساسياً في كل كتابات التاريخ. ومن المهم أن يلاحظ المرء ويدرك أن التاريخ يتألف من الوقائع والتفسير (وكما رأينا، فإن الحقائق تخضع لعملية انتقاءٍ خدمة ً للتفسيرات والشروحات المختلفة). دعونا نأخذ حالة معروفة جداً تشرح عامل التفسير. إحدى الظواهر الخاصة، في الميدان الإسلامي، والتي حيـَّرت المؤرخين دائماً هي سرعة الفتوحات المبكـِّرة وعظمتها. خلال عقدٍ من الزمن إثر وفاة الرسول محمد اجتاح العرب، الذين كانوا حتى ذلك الحين منبوذين على أنهم بدو غزاة، مساحات واسعة من الأراضي التي كانت قبلاً تحت السيطرة البيزنطية والفارسية. لقد أعادوا بسرعة فلسطين، سوريا ومصر إلى حكمهم وسيطرتهم، كما انتزعوا بقوة أقاليم العراق، وبعدها خراسان، من الإمبراطورية الفارسية (الساسانية) الجبـَّارة. وهكذا أخضعوا الإمبراطوريتين القويتين. لكن ما الذي جعل هذا الفتح المفاجئ والمذهل ممكناً؟ ما هو مصدر الدافع المحرِّك لهذا التوسُّع الاستثنائي؟ ما الذي يسَّرَ هذا الإنجاز على هذا النطاق الواسع؟
ُيقدِّم المؤرخون أجوبة مختلفة. يستندُ أحد هذه التفسيرات تقريباً على العامل الديني حصرياً. ويحاول أن يبرهن أن المظهر الوحيد والأكثر بروزاً للفتوحات كان الباعث الديني وراءه. فقد حثَّ القرآن المؤمنين على الجهاد في سبيل التبشير بالدين، وقد انطلق العرب لتنفيذ هذا امتثالاً للأمر. بينما يجادل آخرون بأن الفتوحات كانت امتداداً لعادة. يوضـِّح المؤرخون بأن البدو غالباً ما كانوا يقومون بالغزوات والغارات بحثاً عن الغنائم. ويناقشون أيضاَ بأن الفتوحات الإسلامية كانت عبارة عن غارات ُنفـِّذت لنفس الهدف الموجود في الذهن، لكن على نطاق أوسع وتحت راية الدين الجديد. مع ذلك، فقد كان مؤرخون آخرون ميـَّالون أكثر للتأكيد على حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي السائدة في شبه الجزيرة العربية في فترة ما قبل الفتوحات، والتي أدَّت، كما يعتقدون، إلى تدفـّق المسلمين خارج أراضي شبه الجزيرة إلى مناطق ُكانت محتلـَّة سابقاً من قبل القوى العظمى. وهناك أيضاً تفسيرات أخرى هي إلى حدٍّ ما، أكثر شمولية. فقد لفت المؤرخون الانتباه إلى حقيقة أن القوتين العظيمتين، وأعني بهما الإمبراطورية الرومانية (البيزنطيين) في الغرب والفارسية (الساسانية) في الشرق، المحتلتين للأراضي التي غزاها العرب كانتا قد أُنهكتا نتيجة للصراع الطويل الأمد، بحيث أن فرض الضرائب الزائد والمضايقات الدينية قد قلبت الرعايا ضدهما، والعرب، المسلحون بقوة عقيدتهم الجديدة، وجـَّهوا الضربة القاضية إلى هذين العملاقين المنهكين والمغلوبين. وهكذا، فإنه لدينا تفسيرات مختلفة لحدث ذي نتيجة حاسمة. إلا أن التاريخ كله عبارة عن ممارسة تفسير أعمال الناس. ومع ذلك فإن عنصر التفسير هو شيء أكثر بكثير من كونه رأياً شخصياً. فلا يصوغ المؤرخ المحترف أحكامه من عبث أو فراغ، ولا يؤسّسها على أساس مجرد نزوة ليس إلا. دائماً تشمل هذه الاستنتاجات صرحاً متدرِّجاً للجدال والنقاش. على المؤرخ، كما القاضي الحاكم في قضية قانونية، أن ينظـِّم البراهين والدلائل لتكون تحت تصرُّفه من أجل الوصول إلى حكم، وهذا العمل يتطلب كلا ًّ من الصرامة الفكرية العقلية والدقة الحدسية. إن المعيار الفيصل للصلاحية في التاريخ يكمن في المدى الذي يمكن فيه للمؤرخ أن يحتكم إلى الوقائع، والطريقة التي يمكن له فيها أن يستعمل هذه الوقائع من أجل دعم نظريته. وحتى هنا، فإن هناك دائماً أكثر من تفسير واحد، وإن عملية التحقيق واتخاذ القرار التاريخي ليس لها نهاية أبداً.
تأثير الحاضر
ينقلنا هذا إلى الافتراض الثاني الذي أشرتُ إليه في البداية على أنه فكرة خدَّاعة ٌ؛ خاصة أن الماضي هو الذي لديه الصلة الوثيقة والفريدة بدراسة التاريخ. من الواضح أنه إذا كان هناك جانب هام من التاريخ يحتوي على التفسير فهو يبقى متأثراً بالظروف السائدة في الفترة التي صدف للمؤرخ أن يعيش بها، فما المؤرخ إلا نتاجٌ لعصره وزمانه، وتكون أحكامه متأثرة بقدر كبير بالظروف الاجتماعية، والافتراضات الفكرية العقلية والمسائل الأخلاقية في عصره، مثل أي شخص آخر. إن التحيـُّز والتخمين بشأن ما هو هام بالنسبة لنا وليس حول الأهمية ذات الصلة بالفرد والمجتمع، مع الحشد الكبير من مثل هذه الأفكار، كلها تلوَّن كتابات المؤرخ وتحسّنها. مرة ثانية، عندما يكون المؤرخ نزيهاً في عمله ومتيقظاً فكرياً، فإنه سيحاول بقدر ما تسمح له طاقته البشرية أن يتخلص من التحيـُّز غير الضروري الذي قد يكتشفه في كتاباته. مع ذلك، مثلما يكون إدراكنا الحسي للحاضر مشروطاً بتراث ماضينا، فإن إدراكنا للماضي ينصب في قالب تجربة الحاضر. بالعودة مرة أخرى إلى التاريخ الإسلامي، فإنه من المهم إلى حد ما أن نتأمل في آراء مؤرخ الإسلام العظيم، ابن خلدون، الذي عاش خلال القرن الرابع عشر بعد الميلاد. اعتقد ابن خلدون أن (الحضارة) تنشأ من تضامن الجماعة وتماسكها، ولكن حالما يكتمل تأسيسها تحكم بالانحسار. وهكذا كانت فكرته عبارة عن تصوّر دائري للتاريخ. والآن، من المفيد أن نلاحظ أنه في أيام ابن خلدون كانت وحدة الإمبراطورية الإسلامية ممزَّقة ً إلى أجزاء بعيدة عن بعضها. منذ القرن التاسع وما بعده، بدأت الإمارات المستـَقلـَّة ُ بالنمو بسرعة في أجزاء مختلفة من الإمبراطورية، مفكـِّكـَة بذلك السلطة المركزية في بغداد. وقد ترك هجوم المغول في القرن الثالث عشر ندبة عميقة في وعي المسلمين. وقد شهد ابن خلدون بنفسه هزيمة السلطان المملوكي، فرج، الذي كان هو نفسه في خدمته، على أيدي الأتراك. لذلك، فمن المنطقي أن نفترض أن نظرية ابن خلدون الدائرية (الحلقية) للتاريخ كانت مشروطة، إلى حدّ كبير، بذكرى الهزيمة وتجربتها والتي كان المسلمون في ذلك اليوم يدركونها.
بالرجوع إلى التاريخ الأوربي في العصر الحديث، فإن التأثير الضاغط نفسه لعصر المؤرخ يصبح ظاهراً وواضحاً في كتاباته. كانت إنكلترة حتى وقت قريب هي نقطة التركيز الأساسية بالنسبة للمؤرخين الإنكليز. في أقصى اتساع ٍ له، لم يصل لبُّ اهتمام المؤرخين الإنكليز إلى أبعد من أوروبا. لم يتلق بقية العالم، خصوصاً آسيا وأفريقيا، إلا الاهتمام الذي يتعلق بأحداث انعكست أو كانت ذات صلة بأحداث في أوروبا. وكان هذا نتيجة طبيعية لعهد الإمبريالية. كانت أوروبا على وجه الخصوص، في عهد التوسّع الاستعماري، عرضة لعادة إكمال ذاتها بسبب استحواذها على سيادة العالم، ولهذا السبب كان الافتراض العام دائماً بأنه ليس لدى بقية العالم تاريخ واضح على أصوله. كنتيجة لذلك، عامل المؤرخون الإنكليز هذه البلدان وكأنها ملحقات لأوروبا. مع ذلك، ومع انحلال الإمبراطورية بدأ يظهر الاهتمام بتاريخ آسيا وأفريقيا الأصلي؛ أي أن الناس في تلك الأماكن لهم تاريخهم الخاص بهم والذي له سلطة عليا موازية لتلك التي في أوروبا. ومن هنا، فإننا نجد في هذه الأيام عدداً متزايداً من المؤرخين الذين، يرفضون، إذا كانوا شرفاء، أن يكونوا خاضعين للنظرة السائدة أيام الإمبراطورية. ويبدو أن الاهتمام بالتاريخ الأصلي للشعوب والأمم غير الأوربية قد بدأ بالنمو.
صور المستقبل | |
| | | مهند أحمد اسماعيل مشرف عام
عدد الرسائل : 4437 العمر : 49 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
| موضوع: رد: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الخميس أغسطس 06, 2009 6:35 am | |
| صور المستقبل
هذان فقط مجرّد مثالين يوضّحان كيف تكون كتابة التاريخ مثبّتة ومقيَّدة بإحكام إلى ظروف العصر السائدة. لهذا السبب، تخبرنا أية قطعة من المؤلفات التاريخية الكثير عن عصر المؤرخ، تماماً كما تخبرنا عن الفترة الزمنية التي يتشكل عنها موضوع الكتابة. ولكن هذا ليس كل شيء. لدى معظم البشر طموحات يرسمون لها خططاً، ويأملون في تحقيقها في المستقبل. يبدو أن رؤية المستقبل تصبح ميّزة جوهرية للخيال البشري، ولا يقل المؤرخون عن غيرهم، فإن لهم أفكارهم الخاصة فيما يتعلق بالشكل الذي يجب أن يكون عليه المستقبل. إن مفاهيمهم عن ماذا "يجب" أن تكون الحالة، وماذا "يمكن" أن تكون، تحدد مفهومهم عن ماهية الحالة. وهكذا تكون تجربة الحاضر متأثرة بشكل خفيف وغير ملحوظ بالتوقعات التي تخصُّ المستقبل. وقد يكون ابن خلدون قد دفع إلى التفكير بأن تضامن الجماعة وتماسكها هو الذي أعطى الدافع لنشوء الحضارات، من خلال مواجهته مع تيمورلنك الذي أتى غازياً، مترأساً قبيلة معروفة بتنظيمها وتماسكها. يُعتبر الماضي والحاضر والمستقبل أصناف مرنة من الزمن، ولا يمكن لأية حرفة بشرية أن تُظهرها بشكل واضح كما تفعل كتابة التاريخ.
فوائد التاريخ
علينا الآن أن ننتقل إلى السؤال الثاني الذي طرحناه في بداية هذا المقال؛ وأعني به جدوى دراسة التاريخ. ما هي الفائدة من دراسة التاريخ بالنسبة لمجتمع أو أمة؟ هل هو مجرد ممارسة عقلية وفكرية لأولئك الذين ليس لديهم شيء يؤدونه؟ بكلمات أخرى، هل هو من ترف فكري، أم أنه يجلب المنفعة للباحث وللقارئ؟
حاولت أن أوضَّح فيما سبق، أن دراسة التاريخ تتطلب انضباطاً فكرياً صارماً من أصله. وهذا بحد ذاته من أحدى فوائده. وكغيره من الدراسات الإنسانية، فهو يُعمِّق الخيال، وكغيره من العلوم، فهو يشحذ الفكر والذهن. باختصار أكثر، إن التاريخ. على نطاق واسع يخدم كدليل لأفعالنا في الوقت الحاضر وفي المستقبل. من خلال ملاحظتنا للبشر في الماضي، كيف سخَّروا موارد بيئتهم والطاقات الموجودة في أنفسهم في سبيل السيطرة على التحديات وخلق الحضارات، يمكن أن نحصل على أدلة مفيدة للوصول إلى السيطرة على مشاكل الحاضر وتحقيق رؤيا من أجل المستقبل.
إن الطريقة الجوهرية التي يقدم فيها التاريخ وظيفة مستمَدَّةٌ من حقيقة أنه لا يمكن للحاضر أن يُفهم بمعزل عن الماضي. يمكن لهذه الحقيقة أن تكون قابلة للتوضيح بسهولة أكثر في حالة الشخصية الفردية. حيث أنه بالكاد يمكنك أن تتخيل شخصاً مفصوماً عن الماضي. في أية لحظة من حياة الفرد تشكل مواقفه وقيمه وآراؤه سلسلة طويلة من التجارب والمؤثرات طيلة حياته. نحن جميعنا موجودون طوال الوقت في عملية أن "نكون"، وفي هذه العملية يصبح لكل مرحلة في حياتنا صداها على المرحلة التالية. وهكذا، فإنه في كل شخصية فردية يكمنُ ماضيها، مُلخَّصاً فيه حتى الذروة. وهذا ينطبق على مجموعات الناس أيضاً. وما المجتمع أو الأمة إلا محصلة للقوى التي جعلته يصبح في المرتبة الأولى، وأعطته شكله من خلال حياته المهنية. إن من أهم وظائف التاريخ هي مساعدتنا على فهم كيف أصبحت الأديان، المؤسسات والأمم التي نجد أنفسنا فيها على الشكل الذي هي عليه الآن.
تجاوز الحاضر
عند توسيع وعي المرء بالزمن، يرفع الشعور بالتاريخ مقدرة الفرد على تجاوز الحاضر المباشر. إن الشعور بالماضي حياً في عظام الشخص، والنهوض فوق الإحباطات والتيارات السريعة الزوال للحاضر، لهي تجربة رائعة. إن الإحساس الحي بالتراث وبجدول التاريخ الدائم التدفق، والذي ناضل فيه وسعى جاهداً رجال كأولئك الذين كانوا في زمن المرء، من أجل الحصول على إحساس بالمعنى والهدف لهو أمر جوهري، إن كان على وعي الشخص أن يتوسّع إلى ما وراء نقطة محددة من الحاضر. يُنشىء التاريخ شراكة مع الموتى، والموتى يعودون إلى الحياة من خلال التاريخ. كما يصلح التاريخ لأن يستخدم كعلاج للهوس المفرط بالحاضر، وهذا قد يساعد المرء على التحرّر من البقاء مقيَّداً بالوقت أكثر من اللازم. إن حقيقة أن الإمام، في العقيدة الإسماعيلية، يجسِّد تقليداً ممتداً كثيراً إلى الماضي تخلق موقعاً لمثل تلك التجربة. عند تلخيصه للماضي ضمن ذاته يصلح الإمام أن يكون تجسيداً للتاريخ إن صح القول. من هذا المنطلق فالتاريخ لا يتم "تعلمه" فقط بل أيضاً "ممارسته" . بإنارته لخيال المرء العقلي والأخلاقي.
التاريخ و الهوية
أخيراً، فإن للتاريخ دوراً فريداً يقوم به في تعزيز وتقوية الإحساس بالهوية. ومن أجل أن يحصل المرء على شخصية متميزة، فإن الأخيرة؛ أي الشخصية، يجب أن تكون "مستمرة". يمكن لشخصية الإنسان أن تتغير، لكن يجب أن تتغير ضمن حدود ثابتة معينة. لهذا السبب، فإن الذاكرة هي شيءٌ متممٌ لشخصية الإنسان. لذلك يعاني الشخص الذي يتعرض لانفصال مفاجئ عن الماضي من انهيار أو فشل. وبنفس الطريقة، يحافظ المجتمعُ، عادةً، على ماضيه ضمن ذاته وكأنه لبٌّ جوهري لاستمراره في البقاء على قيد الحياة. وتفرض التغيّرات والتعديلات دلالاتها فقط فيما يتعلق بالاستمرارية. لهذا السبب، فإن الشعور بالاستمرارية أمر هام، ويُعتبَر التاريخ تركيباً ذاتي الوعي للشعور. ويصبح عنصر الاستمرار عبر الزمن مهماً،على الأخصِّ، في أوقات التحول والانتقال. يصبح البحث عن الماضي، في أزمنة التغيير السريع أو الأساسي حاجة روحية ضرورية. ويُضفي على الناس المشمولين بالتغيير شعوراُ بالهوية التي تمكِّنهم من الحفاظ على بعض الاستقرار في خضم التغيُّرات المستمرة. في أفريقيا الشرقية، كانت الجماعات الإسماعيلية تجتاز مرحلة من التغيُّرات الهائلة. لقد خلق اضمحلال الدور الاستعماري، وبزوغ عهد الاستقلال حاجات للتكيف الأساسي من طرف المجموعات الدينية والعرقية، كما هو الحال بالنسبة للإسماعيليين. وإن كان لابد من مواجهة هذا التغيُّر فإنه يستدعي تحقيق ما نُطلق عليه مصطلح "التكامل"، عندها يكون الإحساس بهويتنا الخاصة أمراً هاماً جداً. قد يبدو هذا، تناقضاً مع الذات من حيث ظاهره. لكن من أجل أن نندمج، ألا يتوجب علينا أن نتوقف عن أن نكون نحن أنفسنا؟ سيكون جوابي بأن هذا ليس ممكناً أبداً. إن التفاعل الخلاق يتطلب من الأطراف المعنيّة أن تُدرك هوياتها الخاصة بها إلى أقصى حد. كما هو الحال مع الأشخاص الذين هم على علاقة حبٍّ مع بعضهم البعض، أو يُبدون تعاونهم بشكل أو بآخر، مع ذلك فإنهم جميعاً أفراد مستقلين في حقوقهم. ولكي يدخل مجتمع أو مجموعة في شراكة مبدعة وفعَّالة مع مجتمع أو أمة أخرى، فإنه من الضروري أن يدرك ذلك المجتمع أو الأمة، إلى أقصى حدٍّ. هويته وذاتيته. يتم وبالحصول على صورة ذاتية حياتية من خلال استيعاب الماضي يمكن تحرير الطاقات من أجل تحسين المستقبل وتعديلاته. أما بالنسبة للإسماعيليين، فإن الحاجة لمثل هذا التحرُّر والتجربة الخلاَّقة لم تكن أبداّ قوية وشديدة كما هي عليه الآن. وتلبية لإرضاء هذه الحاجة يلعب التاريخ دوراً بالغ القيمة. | |
| | | مهند أحمد اسماعيل مشرف عام
عدد الرسائل : 4437 العمر : 49 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
| موضوع: رد: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الخميس أغسطس 06, 2009 6:37 am | |
| بقي أن نعطي الكاتب حقه بأن نقدم سيرته الذاتية: السيرة الذاتية
الدكتور عزيز اسماعيل عزيز اسماعيل هو العميد السابق لمعهد الدراسات الإسماعيلية في لندن في الفترة بين 1988-1998 ولقد أصبح منذ عام 1998 أحد أعضاء مجلس الإدارة. تدرب الدكتور اسماعيل في البداية في الفلسفة والأدب والدين ولقد شغل منصب محاضر وباحث في العديد من الجامعات الأمريكية بالإضافة لجامعة نيروبي في كينيا. ارتبط بلجنة الفكر الإجتماعي في جامعة شيكاغو بالإضافة لمركز دراسة أديان العالم وكلية الدراسات العليا في التعليم في جامعة هارفرد. عمل الدكتور اسماعيل مستشاراً للعديد من المؤسسات ومن بينها قسم العلوم الإنسانية لمؤسسة روكفلر (Rockefeller). نشر مقالاته في مجلات أكاديمية ومن بين كتبه: "شاعرية التجربة الدينية: السياق الإسلامي" ( إ. ب. تورس بالتعاون مع معهد الدراسات الإسماعيلية، 1996) و "عبير الصندل: الأناشيد الدينية الهندية-الإسماعيلية" ( إ. ب. تورس بالتعاون مع معهد الدراسات الإسماعيلية، 2002). يساهم الدكتور اسماعيل في المعهد بقدراته التنفيذية بالإضافة لمسؤولياته الأخرى بحكم عضويته في مجلس الإدارة وبصورة رئيسية يساهم في صياغة الإستراتيجيات الفكرية التي توجه بدورها أعمال مختلف أقسام المعهد. | |
| | | مهند أحمد اسماعيل مشرف عام
عدد الرسائل : 4437 العمر : 49 تاريخ التسجيل : 09/07/2008
| موضوع: رد: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الإثنين أكتوبر 11, 2010 8:05 pm | |
| المصدر معهد الدراسات الإسماعيلية تحياتي | |
| | | سقراط مشرف عام
عدد الرسائل : 4740 تاريخ التسجيل : 06/03/2008
| موضوع: رد: لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل الثلاثاء أكتوبر 12, 2010 3:55 am | |
| بسم الله الرحمن الرحيم يا علي مدد أخي الروحي الغالي مهنّد موضوع هام وشيّق شكراً لك وفّقكم المولى | |
| | | | لماذا التاريخ/عزيز اسماعيل | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|