قراءة في بعض نصوص الوحشة والاغتراب
شخص بعيد .. نصٌ وحيد
لعلها
واحدة من أجمل ما تهبه القراءة النموذجية للشعر، هو أن تضعك أمام اللاتوقع
تماماً، هذا الموقع الذي يستكمل به النص، وبه يصبح أكثر اختلافاً عن الشكل
الممهور بختم الشاعر، عندها فقط ينزاح عبء الحياة الواقعية صوب الإدراك
المتخيل ويصبح النص المقروء عالماً مسحوراً بنداء جميل وموحش بذات الوقت.
يختلف
التوقع في الشعر عنه في القص أو الرواية، من حيث استباقية اختلاف واستيعاب
فهم ردة الفعل، فعند الروائي أو القاص، تبدأ سلسلة الفرضيات بطرح حالها
ضمن سياقات بعضها مقبول ومفهوم والآخر غرائبي بعض الشيء، لكن الشاعر بنصه
ينشئ فرضية جديدة مغايرة بالمطلق، مرتبطة بأزمته الداخلية موقعاً الصدمة
والدهشة معاً، يبدو من خلالها مبدع النص وكأنه ضارب نحو مزيد من العزلة أو
الفتح الأعمى.. وبكلمات تبدو كالهلوسة، وتشبه الشعر!.
في
رواية اللص والكلاب عند نجيب محفوظ.. يأخذ التوقع منحى مستغرباً بعض الشيء
عندما تصل الأمور بسعيد مهران لأن يسرق صديقه الناصح أبداً رؤوف علوان،
لكن من منا يتوقع مثلاً أن يلج الشاعر محمود البريكان في ظلمة وحشته بعد
أن يفتح الباب ويراها
«يخطو نحو الباب المفتوح
فيحدق في الظلمة
ويصيخ إلى همس لا يسمعه في الكون سواه
وبلا رفة جفن.. يخطو»
يقول ناقد: «يغترب الشاعر عن نفسه المحدودة الفانية ليخطو باتجاه الباب لعله يوصل الزمني بالأبدي!».
إذا
كانت رغبة الشاعر هنا في طريقها إلى جسر يوصل الواقعي باللاواقعي تبدو غير
متوقعة بالمطلق ضمن السياق الاستنتاجي - القرائي، وضمن ما أُريد للصورة من
تأطير، فإن الاغتراب المكاني، يدفعه دفعاً إلىالهلوسة التي يراها قارئ
النص فتحاً منفلتاً من قبضة اليقين باتجاه اضطراب الحواس.. وإلا كيف نفهم
سعدي يوسف وهو يخاطب قيثارة حمراء في مطعم منزو:
بهذا النداء «الجافل المتداعي»
«سوف يأتي المغني ويذهب
يأتي الخريف ويذهب
لكنك ستبقين برميل بيرة
تظلين في هدأة الزاوية
أنت والأوس والرمس والقدم الحافية»
هنا
كان الشاعر وحيداً يجلس في الزاوية الأخرى المقابلة، يطل على مشهد، مشفقاً
يرثي حالة اغترابه.. ينتظر خبراً أو عبق رائحة يحن إليها، يحملها إليه
هدهد !! .. روائح «غابات يسقيها المطر منذ قرون/ غابات لم يدخلها حطابون/
ولم يمسسها بشر/ غابات ما كانت لتكون..»
عمار مرياش شاعر مغاربي يصرّ
على الاحتفال وحيداً منفرداً بين «سنة الوقت» و«قوة الكلمة»، في غربته،
مؤطراً بالوحشة رأى نفسه في لجة الاضطراب فسقط مغشياً عليه ليكتب فيما بعد
بضعة هلوسات:
«ها أنا أتكور، منتشراً في المتاهة،
ياللفظاعة؟
إنه أجلي يتعامى
وأنى اتجهت أدار طريقي إليه
اتركوني عليه
أطفئوا النور وانتظروا..»
بداهة
إذن أن يحتفي شاعر بنصه الغريب والموحش، ويقول عنه ما لا يقال.. لكن أن
يحتفي نص بشاعره أمر فيه من الغرابة ما يستعصي على المدرك والمتخيل معاً
في «آخر المدن المقدسة» لكمال سبتي، يسأله النص محتفياً «ما كنت غيرك..
فلماذا غيرتني في هذا الليل!؟»، يجيبه الشاعر: لأننا.. أنا، أنت «غرباء عن
برد ليس لنا، غرباء عن هذا الآجر.. غرباء عن هذا النوم.. غرباء عن غرباء
بادلونا الصقيع بالغناء، من اليمين إلى اليسار.. يحتفل العرب بالغناء،
وأحفل وحدي و«أنت» بوراثة الندم ... لا يأتي الكلام بالكلام «إذن» وشعوب
شتى تنام».
أما الشاعر محمد طالب فقد كتب سفر خروجه، معلناً اغترابه
ووحشته، يلعق جراحه وقلة حيلته تجاه أهله وبلده.. والقصيدة هنا جحيمه الذي
يتخذ شكل الحطام الروحي، أما البحر والصنارة فهما وسائل استراحة محارب بعد
معركة، اراد لها النهاية.. منتظراً سمكة.
«حيث تنأى السنون البعيدة حاملة كل أعبائها ومسراتها..
حيث تجلس في الليل منطفئاً
ينقل التلفزيون أخبار ذاك الدمار..
... وتشهد أهلك يستصرخونك..
لكنك الآن أدنى، إلى الجثة الهامدة..
قد علتك الغضون، وداهمك الشيب وأحتملتك المحطات نحو الأقاصي
وجفت على مقلتيك الدموع..
ولم يبق من ذلك العالم المتألق غير الرؤى الجامدة
وتراميت من شاهق، نحو هذي الشواطئ، تجلس في رفقة البحر..
تلقي بصنارتين إلى الماء منتظراً سمكة..
هكذا تنتهي المعركة !!.