السرطان وباء لئيم ورحمة إله حليم
...وبعد أن انعم الله علي بالشفاء أصلــّي لراحتكم من الآلام ... إثارتكم لموضوع الألم يفتح عندي قريحة الكتابة فأنشغل فيها قليلا عن آلامي التي أمضيتها ليال موجعة بحق ولكن لابد من مناقشة طروحاتكم احتراما لما صرفتموه من وقت وتقديرا لقوة الطرح فالألم قبلته انا وفتحت له ذراعي حين أعلمني ولدي يوم اكتمل تشخيص المرض قال لي ( بابا مرض خبيث ) فأنطقني الله ( بابا الحمد لله ) وقلتها من أعماقي وأنا سعيد جدا بإيماني لأنه فقط هكذا وكنت أتوقع أن يكون أكثر من خبيث وأنا لست ممن يرى ان الأبدية هنا وبعضكم يعلم الكثير عن إيماني فالأبدية هناك عند إله مقتدر واعرف ان هذا استفقاد من الله وتكريم احمده عليه واحمده ان لي هناك أصدقاء يشاركونني في طاعته إيقانا لا ميراثا ويرفعون صلواتهم اليه ربما ليس بقصد الشفاء بقدر ما هو بقصد تخفيف حدة الألم وفي الحالتين فهم عندي ملائكة نور ورحمة ، وشعور عارم بالطهر والمحبة ، وفي كل هذا وذاك ،راحة بلا حدود من الشعور بان هناك من يحب السلامة لجميع المرضى ، بل هناك من يشعل الشموع الى الرب تضرعا ..اما عن هدوئي الداخلي فاعلموا سادتي ورغم كل مبرحات الألم استيقظ أحيانا على شعور أنسى فيه أنني مريض واشغل نفسي بالكثير من المتابعات على النت خاصة اني كنت في اجازة نقاهة من المشفى في الشهر الفائت مدتها شهر بين استقرار علاج الأشعة وبين تقرير الجراحة فأمضي الوقت كله على النت وأحيانا في مراجعة بعض نتاج المعرفة ، وبعد اول مراجعة في السابع من الشهر السابع أجريت فيها عمليات التنظير المرئي بالفايبرو ثم تصوير طبقي وحلزوني وأخيرا إيكو عنق وقلب وخمسة انواع من التحاليل تبين من خلال كل هذا اني برئت تماما من المرض حتى آذن المجلس الطبي بالكشف الشهري لمدة خمس سنوات متتالية لإتمام الشفاء وخاصة من الألم عندما داهمني على حين غرّة ، كنت استعد له فيما لو حلّ ضيفا سمجا على جسدي ، وخلالها أجريت كافة الاستعدادات النفسية للتعامل معه فيما لو حلّ فعلا في جسدي ، ولم يخونني حدسي ، وفي منتصف العقد الخامس صمتت الحنجرة ظنا أنها حالة رشح ثقيلة ، بدأت الرحلة الشاقة والمؤلمة والمضنية والمتعبة للغاية ، استطعت الغوص في عمق المسائل وتحليلها وفهمها ومواجهتها وبدا لي الأمر وكأني أقف أمام حوض عكرت مياهه مشاعر مختلفة أحركها بين الفينة والفينة ... كدت افقد قدرتي على التحكم بالذات لولا أن عادت المياه رويدا إلى صفائها ومددت يدي لبعض مخزون الاحتياط الكامن في أعماقي مستعيدا بعض آمالي التي خففت علي إعلان الحرب السرطانية الغاشمة الحاقدة بأثقالها المختلفة والتي خفف حسي السليم من ضغطها سيما وان الموسيقا كانت شغلي الشاغل مع بعض الاسترخاء بعد قفل الهاتف وجرس المنزل والخلود إلى عمق الذات وبدء عملية التصور بأن القوة المعنوية تدعم جهازنا المناعي الذي يحارب مرضنا وينتصر عليه ، وجلسنا أنا والسرطان نظيران في العداء لا مثيل لهما ، وكل منا ينافس الآخر في يباس الرأس والعناد حتى فرضت المعركة نفسها علينا وهو متكىء على أريكته معتمدا الحنجرة مقرا يلوذ به وقاعدة آمنة لحركة قواته متى اراد ان يجول معي جولة او مناورة ليلية ، وكنت لا أأمن له مكائده وخططه الهجومية حيث يعمل كل الجهد في نشر قواته أنـّى سنحت له الظروف ففكرت مليا في تطويق حربه بالسرعة والقوة المطلوبة وشتانا ما بين القوتين .. سيما وإنني بالمقابل أواجه مشكلة علاقة أولادي وزوجتي بظرفي الصحي فالتمست من نفسي التخفيف من مخاوفي أمامهم ومن انفعالاتي وضيقي وانزعاجاتي لأنهم مقربين مني جدا وخائفين ، وفي لحظة فكرت لأول مرة بالهجوم المعاكس رغم ان ليس من سلوكي أي نوع من الهجوم فكل مسيرتي تتمحور حول الدفاع فقط ، رأيت أن لا مفر من التسلح بالعلم لحسم الموقف وبدء المنازلة ، بحثت بقوة عن المواد العلمية التي تفي بالشفاء ، فلجأت الى الطبيب الانسان واعني تماما الدكتور محمد عامر الشيخ يوسف طبيب سوري مؤمن خلاق يحمل بين أضلعه كل معاناة مرضاه وكل آلامهم لا يكلّ منهم ولا يملّ ويتابعهم بجوارحه وعواطفه وما من مريض أسلمه عنانه إلا وشفي بعون الله جزاه الله الخير والفضل ، وعدني الطبيب الانسان بأن يفعل بي المعجزة على ان اكون مطيعا للمنهج الذي يرسمه لي فالتزمت بإرادته ولم اتخلّ عما أضمرته تجاه هذا الدخيل اللعين حيث قرأت انه ستكون هناك بيننا معركة من نوع مختلف وبعد عدة مفاوضات على انسحابه من المعركة كان الرفض عنوانه الدائم .. فقررت ان اخوض المعركة لقرائتي ان الموت لابد قادم ان لم يكن اليوم فغدا .. ومن هنا فلماذا لا يموت الانسان قويا عزيزا شريفا واقفا ؟؟ تم حسم الموقف بأن لابد من المعركة ، وقفت بمواجهته ووعدته بعد أن أقسمت بالله العلي العظيم ان تكون معركتي معه شرسة وضارية ولا هوان فيها وليكن سلاحي الأمضى الثقة بالنفس والتحكم بالذات ، قبل أن يذرّ قرنه ويستفحل أمره دعوته للمنازلة فقبلها وتواعدنا ان نلتقي في زمكان مناسب في حلبة صراع لن يطول كثيرا لانشغالي في اعمال أخرى وخشية فوزه بالضربة الأولى اقتنصتها من يديه بشهب الأشعة النووية التي بدأت تتساقط على رأسه من كل حدب وصوب فأرديته أرضا بلا حراك من الجولة الاولى وأقولها بصدق .. شعرت من هذه الجولة ان المعركة ستحسم لصالحي ولا اقبل أي نوع من النقاش ولا مع أي أحد فالمسألة تخصـّـني شخصيا وانا وحدي المعني بالمعركة ولي حرية ادارتها لوجستيا وبالطريقة التي تمكنني من النصر على خصم تهيأ لنفسه اني مريض كباقي المرضى ،خسىء بحول الله فقد تمسكت بآي القرآن وبالعترة والآل حتى صورت لنفسي أني أصارع اليزيد ذاك الذي واعدته بحرب ضروس تشفيا للقربان الإلهي ( الحسين ع ) من خلال هذا التصور أدرك العلماء والأصدقاء وعبر كل الوسائط المتاحة مدى انشغالي في المواجهة متلمسين خيبة أمل ألفوها في مجتمعنا المغلق بأن اخفاقا لاح لهم وبأني لابد مهزوم حيال هذا الوغد لكنهم وثقوا ايضا بخطتي في لوي ذراعه قولا فصلا .. كثيرا ما شعرت بالذنب لأني احتكرت مطولا اهتمام الطبيب الانسان ( الكثير الانشغال ) بل وتفردت فيه كثيرا ( اتصال ، مقابلة ، ملاحقة ، مراسلة على النت ) ليس من زاوية الانانية لا والله بل من منبت عشقي له منذ بدأ السجال بيني وبين الإستاذ الزائر ( عابر سبيل ) سرطان خانم ، وأقول خانم لأنه فعلا أنثى وأنثى شرسة ولا يمكن لأي أنثى مهما بلغت شراستها أن تلوذ بزاوية حجرتها بغير رجل متجانس .. وأعرف أنني مع هكذا خصم يجب أن أكون بحجم شراسته .. حقا انه من أسوأ الانواع تصنيفا والأسرع انتشارا والأكثر خطورة وقد منحني يوم الكشف فقط عشرة ايام لأكون في ذمة الله .. هذا قرار المجلس الطبي بدمشق وفي مقدمتهم الدكتور عبد الحي عباس استاذ الحنجرة السورية ، وعشرة ايام لا تكفي لوضع خطة المواجهة او التعامل مع هذا الوافد الثقيل ولكن من يتق الله يجعل له مخرجا .. بدأت جرعات الكيماوي تتسلل عبر السيرون الى دمي مخلفة آثار الإقياء الشديد عندي بينما حولت عند البعض الدم الى ابيضاض البشرة وشحوب الوجه ونحولة الجسد وبعدها بدأت جلسات الأشعة ( غاما ) تنال من جسدي إرهاقا وتعبا تخلله نشاف الريق والحلق وتغيرت نوعية اللعاب وازدادت كثافتها وتحول طعم الفم الى حالة كريهة حجبت عني إمكانية تذوق الطعام بل وحرمان عملية قبول الطعام ( طبيعيا ) كباقي أهل السلامة سوى عن طريق استخدام خلاط كهربائي يؤمن طحن الطعام لدرجة السائل فكان هذا حلا وسطا بين استمرارية المعركة واستمرارية الحياة لكن الخصم اللئيم اعتبر ان هذه العمليات هي نشوة نصر في نزالاته معي وأنا تجاوزت نصره الكاذب لاشعوريا وبدأت عندي استراحة المحارب .. تلك التي خصصتها لكم انتم ولأني اعلم يوما بهذا اللقاء حتى لا ينسج لكم السرطان خيوط الفجر ويباغتكم ويوقعكم فيكم فرائسه الثمينة ، رأيت ان تكون استراحتي معكم لأنه يجب ان يكون لديكم خطة مواجهته خاصة أن المنازلة هي منازلة نفسية أكثر منها منازلة ميدانية او مشادة كلامية او تفاعلات دوائية او نفاقات وشعوذات بعض أطباء الأعشاب .. فرأيت أن أتوجه لكم