بسم الله الرحمن الرحيم
الباطن والظاهر وضرورات التأويل
مقدمة:
كلُّ ما في الوجود له ظاهرٌ وباطن ,أو مبنى ومعنى ,أو شكلٌ ومضمون , وهذه المفاهيم تنطبق على عالم المادة , كما تنطبق على عالم الأدب , وتنطبق على عالم الروح .
فإذا كان الخلق قد تمّ بالكلمة الربانية (كن) وهي كلمة , فإنّ الكلمة ساوت خلقا ماديا للكون والبشر والكائنات جميعها ,وبالتالي فإنّ الكلمة تتضمن المبنى والمعنى معا . وبما أنّ قدرة البشر محدودة فإنّ إدراك المبنى في كثير من الأحيان يكاد يكون مستحيلا , فما بالك بالمعنى إذاً ؟ إنّه الاستحالة بعينها .
تعريف : الباطن (لغة) من بطن يبطنُ بطونا : خفي , فهو باطن (ج)بواطن , والباطن داخل كلّ شيء , خلاف الظاهر , ومن أسماء الله الحسنى : ومعناه العالم بالسرائر والخفيات أو المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم .
الظاهر : (لغة) من ظهر الأمرُ يظهرُ ظهورا : تبيّن وبدا بعد الخفاء , فهو ظاهر , والظاهر من أسماء الله الحسنى , وخلاف الباطن .
الباطن والظاهر في القرآن الكريم :
وردت لفظتا الباطن والظاهر في مواضع كثيرة في كتاب الله عزّ وجلّ منها :
قوله تعالى :"وذروا ظاهر الإثم وباطنه ..." (الأنعام 120) . " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم " (الحديد 3) , " وأسبغَ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة " (لقمان20) . " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " (الحديد13 ) .
كيف يتوصل الإنسان إلى معرفة الظاهر والباطن ؟
أما الظاهر فهو القريب الواضح , الذي يمكن للإنسان أن يدركه بحواسه الخمس التي يشترك فيها غالبية البشر , مع تدبر من قبل العقل فيما ترى العين أو تسمع الأذن أو يشمّ الأنف أو يتذوق اللسان , أو تلمس اليد ... أمّا في القرآن الكريم فيمكن فهم ظاهر اللفظ القرآني ببعض العلم باللغة العربية ونحوها وصرفها وفقه بسيط يتداوله الناس في مجالسهم , وفهم الظاهر أمر مباح ومتاح للجميع , وكتب التفسير سواء بالنقل أو بالرأي كثيرة أمثال تفسير ابن كثير والطبري والجلالين وغيرهم ,وهذه التفاسير لا تخرج عن تفسير معاني المفردات,أو بالنقل عن المأثور من كلام النبي (ص) .
أمّا الباطن فهو الجانب الأهم الذي يحتاج إلى الكثير من التفكير العقلي والمعرفة بأصول اللغة ودلالاتها البعيدة التي تتجاوز المعاني المعجمية البسيطة , هذا بالنسبة لأمور الحياة المادية أو الأدبية , أما أمور الدين ومعاني القرآن , فهي تحتاج بالإضافة إلى ما سبق إلى معرفة بأصول الدين خاصها وعامّها وفروعه , والكشف والإلهام والمثل والممثول , وهذه القدرات لايتمتع بها سوى قلة من البشر ,وهو القدرة على التأويل , أما ما يرد به بعض الناس بأنّ الله تعالى قال " اليوم أكملت لكم دينكم ..." فإكمال الدين تعني أتمام الرسالة التي أرسلت على النبي محمد (ص) من حيث الظاهر أي القرآن بلفظه (سور وآيات ) ولو كان المقصود غير ذلك لأغلق باب الاجتهاد من تلك اللحظة ولما وجدت التفاسير أو الفقه أو مصادر التشريع من قياس وسد ذرائع وغيرها ... فالقرآن كتاب الله الذي يوفر للناس القدرة على التعامل مع الحياة في كل زمان ومكان , وهو يقدم لنا منهاجا وخطة عمل نعتمد عليه في كل عصر , لكن كيف نستطيع ذلك ؟ الجواب :بما نملكه من عقل يستنبط القيم والمفاهيم والقوانين والأنظمة لحياتنا .
وهنا نجد الحاجة إلى التاويل , وهي ضرورة أقرّ بها القرآن في مواضع كثيرة , منها ما ورد قي سورة (يوسف ), كقوله تعالى " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتّم نعمته عليك " (يوسف6) يقول المرحوم المفكر العربي حسين مروة " للتأويل هنا مفهوم معرفي خاص غير المدلول اللغوي المعجمي للفظ (التأويل) وهو التفسير , ولو لم يكن له هذا المفهوم الخاص لما كان امتيازا ليوسف أن يعلمه الله تأويل الأحاديث ..... ) إذ أنّ ظاهر الأحاديث لا يحتاج كما ذكر سابقا إلى تعليم إلهي خاص يكون كما ورد في الآية السابقة إتماما لنعمة الله على يوسف كما أتمّها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحق . وبناء على ذلك فإنّ التأويل هو نوع من العلم الخاص وغير المألوف أو الشائع بين الناس ؛أي غير العلم الحاصل من العقل البشري أو الحس أو ظاهر النصوص ...
قد يرد قائل إنّ التأويل هنا تفسير الأحلام كما في القصة القرآنية , والجواب على هذا التساؤل يكون بأنّ تفسير الأحلام هو علم وخبرة في مجال علم النفس,يتناقلها الناس بالتعلم والدراسة فهي شيء مكتسب لايختص به الأنبياء بل إنّ أكثر مفسري الأحلام هم من الدجالين كقارئي الفنجان والكف والأبراج .
ووردت تأكيدا لقولنا آية أخرى في سورة يوسف " وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث ..."(21) وتؤكد الآية الآتية وجهة نظرنا " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " ( الكهف 82) قد يرد أحدهم : إنّ التأويل هنا تفسير لأمر غريب فعله الرجل الصالح أمام سيدنا موسى (ع) , والجواب : ما كان الله ليستخدم لفظ التأويل وهو يريد التفسير ,و نحن نعلم دقة ألفاظ القرآن الكريم , وقوله تعالى : " بل كذبوا بما لا يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله ... " (يونس39) وقوله تعالى " ولق جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ....." ( الأعراف 52-53) . وهاتان الآيتان تتحدثان عن أمور مستقبلية , وتبين أنّ هناك من أرسلهم الله لتأويل القرآن ولكنّ بعض الناس نسوا ما قاله أولئك الرسل .
من يحقّ لهم التأويل ؟
لمّا كانت حواس الإنسان لا تستطيع الدخول إلى عالم الباطن في كلمة الخلق ,ولا تتيح للإنسان معرفة المعنى , فقد منح الله الإنسان العقل , لكن بقدرات متفاوتة , فإذا أعمل الإنسان عقله بعيدا عن أهواء السياسة والمصالح الشخصية والدنيوية المادية فإنّه يستطيع الوصول إلى المعرفة الخالصة أي عالم العقل أو الباطن أو الروح . وأبو حامد الغزالي كتب كتابه (مشكاة الأنوار ) ثمّ عاد لينقضه طمعا في مكافأة مادية أو ترهيب من الملك العباسي المستظهر بالله في كتابه فضائح الباطنية , ويقول ( فقد فهمت من هذا أنّ العين عينان: ظاهرة وباطنة , فالظاهرة من عالم الحس والشهادة . والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت ... وإنّ من لم يسافر إلى هذا العالم وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعد . محروم من خاصية الإنسانية , بل أضلّ من البهيمة ولذلك قال الله تعالى " أولئك كالأنعام بل هم أضلّ " ( مشكاة الأنوار ص50-حققه وقدّم له الدكتور عبد الرحمن بدوي – طبع الدار القومية للطباعة والنشر –القاهرة 1964).
لهذا نجد الغزالي يفسر الأنهار التي ورد ذكرها في الجنة (الماء والخمر واللبن والعسل ) بأنها ليست أنهاراً حقيقة بل هي درجات في معرفة الله والقرب منه .
قال تعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربّنا وما يذكّر إلاّ أولو الألباب " ( آل عمران7) . للوهلة الأولى يعتقد بعض المفسرين أنّ علم التأويل علم خاص بالله سبحانه , ولا يطلع عليه أحد ,وهذامحال لا يليق بالباري عزّ وجلّ , فكيف ينزل الباري آيات لا يعلمها إلاّ هو؟وما فائدتها للبشر؟ لكن بالعودة إلى الآيات السابقة رأينا كيف أن الأنبياء أوتوا علم التأويل . وهم أحق الناس بأن يكونوا راسخين في العلم الإلهي, وقد انتقل من واحد لآخر بعملية الاصطفاء التي وردت في قوله تعالى " إنّ الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " . فهذا العلم الإلهي انتقل بالوراثة بين الأنبياء والرسل وما دعاء زكريا (ع) " ... فهب لي من لدنك وليّا . يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " (مريم ) فدعاء زكريا النبي لا يريد أن يخلفه ولد ليرث أمواله حاشا للأنبياء أن يفكروا فيمن يخلفهم في متاع الدنيا الزائل . أمّا التحديد الأشمل للراسخين في العلم فقد جاء في قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم , فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " (النساء 59)
تباينت الآراء في تحيد أولي الأمر , فبعضهم اعتبرهم حكام المسلمين , على اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية والعلمية والدينية,وبغض النظر عن فقدان الكثير منهم لشروط تولي الحكم وشؤون المسلمين من فسق وفجور وظلم وجور , فكيف يقبل منهم تأويل آيات القرآن وهم لا يملكون أدنى معرفة أو فقه أو تقوى .. أمّا أهل التصوف فقد اعتبروا أنّ كلّ من يمارس طقوس الصوفية صاحب ولاية بالعبادات والتواصل الروحي وغيره من المكابدات المختلفة , وهنا نتوقف لنشير إلى أن الكثير من المتصوفة يعيشون حالات من فقدان التركيز والشطح في القول,وهذا يفتح بابا للتأويل لا يمكن ضبطه .
فمن إذاً يحق له التأويل بعد النبي (ص) لاشك أنّ أولي الأمر بعد انتقال النبي(ص) إلى جوار ربه هم أهل بيته ورثة بيت النبوة وعلوم الدين الذين أوصى بهم الله سبحانه على لسان نبيه الكريم " قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ الموّدة في القربى " . لقد فسر بعضهم هذه الآية بأنّها تدعو المسلمين إلى محبة وموّدة أقربائهم , وهذا منتهى التسطح الفكري , فهل من المعقول أن يسأل النبي (ص) الناس محبة أقربائهم , ويكون ذلك أجرا له منهم , ألم يكن العرب يتعصبون لأبناء عشيرتهم قبل الإسلام تعصبا أعمى , ثم إنّ مودة أقرباء النبي(ص) يستقل بها أهل بيته أولا , ثمّ من بعدهم من بني هاشم .
وهم أهل الكساء الذين ضمّهم كساء النبي في آية المباهلة "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "(آل عمران61) . وهم الذين أوصى بهم النبي(ص) في حديث الغدير ولئن روي بشكلين فكلا الشكلين يدل على آل بيت النبوة , أليس من التناقض العقلي عند من ينكر حديث الغدير وقد شهد عليه عدد كبير من الصحابة , أم أنّ فساد السياسة ومغرياتها تجعل الناس يصدقون أحاديث الآحاد إذا كانت تتفق ومصالحهم , ويشككون في الأحاديث المتواترة إذا كانت تحرجهم فيما يميلون إليه أو يسوقونها بطريقة سطحية , ففي حوار مع بعض رجال الدين , ولمّا وجدوا أن لا مفر من الإقرار بحديث الغدير , حرفوا موالاة آل البيت بمعنى المحبة والمودّة , وليس التسليم لهم بالقيادة والتوجيه . والأحاديث التي تبين فضائل الإمام علي موجودة في كل كتب الحديث , لكن بعض الطبعات الحديثة لصحيح البخاري في السعودية حذفت تلك الأحاديث بحجة الخوف من تشيع الناس , وهو مبرر سخيف ويخالف كل أشكال المنطق العقلي والديني أيضا , لأنّه إخفاء للحقائق وتضليل للناس . والحديث الشريف يقول : " أنا صاحب التنزيل وعلي صاحب التأويل " . وقد أورد الغزالي في كتابه (مشكاة الأنوار ص73) : ( للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع ) , ثمّ يقول وربما نقل هذا عن علي , وفي رواية أخرى عن الإمام علي (ع) : ( ما من آية إلاّ ولها أربعة معان : ظاهر وباطن وحدّ ومطلع ) . وإذا كان النبي (ص) قد دعا لابن عمه عبد الله بن عباس بقوله : ( اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل ) , فهذا الدعاء اعتراف صريح بمعرفة التأويل , وهذه المعرفة انتقلت من النبي (ص) إلى ابن عمه علي(ع)بحكم التواصل الدائم بينهما , فهو زوج ابنته الزهراء , وأخوه في الدنيا والآخرة , والمؤاخاة ثابتة في الحديث الصحيح , ( أنت أخي في الدنيا والآخرة ) , و ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ... إلاّ أنّه لا نبي بعدي ) , ونفي النبوة لا ينفي أن يكون علي وريثه في علوم الدين ووصيه الذي ردّ عليه ( عمر بن الخطاب ) بقوله : بَخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن لقد صرت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وفي حديث مشهور ( أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ) . وهكذا يقضي ذلك كلّه أن يكون الإمام علي عالما بظاهر الشريعة كغيره من المسلمين , وعالما بباطنها كخاصة أهل العلم من بيت النبوة صلوات الله عليهم أجمعين , كما يمكن أن تمنح هذه الخصوصية لمن يراه أولو الأمر جديرا بالمعرفة الخاصة في علوم الدين من دعاة وحجج وغيرهم , ولكن أجد هنا أن التأويل يبقى مشروطا بما لا يخالف ظاهر الشريعة , وهو شيء ضروري يقتضيه الانسجام والتناغم بين الظاهر والباطن . إذ لا يصح أن نلبس المرأة القبيحة ثيابا جميلة لخداع الناس , كما لا يصح أن نلبس المرأة الجميلة ثيابا بالية فنفسد جمالها , فالشكل يجب أن ينسجم مع المضمون , كما يكون المبنى والمعنى متفقان لأنّ كلاهما من عند الله , ومثال ذلك قوله تعالى " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم " ( الدخان 10-11) فظاهر التفسير أنّ الأرض تجدب ويشتد الجوع فتعمى أبصار الناس حتّى لتكاد ترى من شدة الأمر كهيئة الدخان الذي يصل بين السماء والأرض . أما تأويل الآيتين فهو والله أعلم : يكون قبل القيامة الوسطى من الفتنة التي تغشى الناس ( فتنة الدجال) , والضلال الذي يقع عليهم وبهم إذا ما أظلمت سماء الحكمة وتناثرت كواكبها وأظلم قمرها . وقد يسأل سائل : ما القيامة الوسطى ؟ والجواب هناك ثلاث قيامات : القيامة الأولى للإنسان موته , والقيامة الوسطى قيامة المسيح ( ع) أو القائم بأمره إمام آخر الزمان أو المهدي المنتظر عند من يعتقدون به بعد فتنة الدجال , والقيامة الكبرى و هي القيامة التي تكون للحساب وتبديل العالم بما يشاء الله .
الحاجة إلى التأويل :
من أسباب وضرورات علم التأويل :
1- لفهم الرموز القرآنية , مثل مطالع السور أو الأمثال التي جاءت في سياق الآيات الكريمة , كآية النور " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء لو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم "(النور35). كيف نفهم هذه الآية الكريمة ؟ إذا كان الله عزّ وجلّ ليس كمثله شيء , لقد قرّبت الآية المفهوم بطريق المثل فالله نور السموات والأرض . ولكن كيف نتحقق من هذا النور ؟ لقد تمثل نور الله في العقل الكلي الذي هو أول مبدع أبدعه الباري ومنحه من نوره ليصبح نورا بذاتة أي انتقل من القوة إلى الفعل ( لا نجد كلمة عقل في القرآن إلاّ بصيغة الفعل فما سبب ذلك ؟ أعتقد أن ذلك يعود إلى الدور الفاعل للعقل ) والمشكاة هي النفس الكلية المنبعثة من العقل المضيئة به ، أمّا الزجاجة فهي الهيولى الأولى الشفافة المضيئة بما يسري عليها من فيض النفس , كفيض العقل على النفس , وهي حالتها الأولى مجردة من الصورة ومكوكبة بالأنوار الذاتية , غير مركبة ولا مؤلفة , وتكاد لشرفها ولطفها أن تكون عقلا , ولو لم يتصل بها , فلمّا أمرها بخيراته كان نورا على نور ( نور العقل وع نور النفس ) . وفي تأويل أية الشجرة الطيبة التي فسرها المفسرون بأنها النخلة , ولا عيب في ذلك لكن التأويل يأتي بالمعنى المقصود فعلا . قال تعالى : "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكرون " (إبراهيم 25) . وقوله تعالى " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلّهم يرجعون " (الزخرف28) فالكلمة الطيبة أي القول الطيب كما يفسرها المفسرون هي النبي أو الإمام من بعده لأنّ تقاطع الآيتين يدل دلالة واضحة على ذلك فالآية " إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيحُ عيسى بن مريم .." (آل عمران 45) وقوله تعالى : " إنّما المسيحُ عيسى بن مريم رسولُ الله وكلمته " (النساء 171) إذ شبه الباري الأنبياء ومن يقوم مقامهم في فترات انقطاع النبوة من أئمة الزمان بالشجرة المتأصلة جذورها في أعماق الأرض وتشمخ إلى السماء وتثمر كلّ حين , فثمارها هم الأنبياء والأئمة الذين يتصل حبلهم بين السماء والأرض ومن عهد آدم (ع) إلى آخر الزمان , وجعلها كلمة باقية وهي كلمة التوحيد التي استمرت في سلالة سيدنا إبراهيم (ع) من ولده إسماعيل إلى سيدنا محمد (ع) وتستمر في آل بيته إلى يوم الدين , لقول المصطفى (ع) : ( أهل بيتي كالنجوم كلّما أفلّ نجم بزغ نجم , بأيهم اقتديتم اهتديتم ) . وليس كما زور المزورون الحديث بالقول : أصحابي كالنجوم . فهذا القول لا يتفق والمنطق العقلي إذ كيف يقتدي أهل زماننا بمن ماتوا منذ أربعة عشر قرنا ونيّف , فالاقتداء يكون بالأحياء وليس بالأموات .
2- التأويل ضرورة لتفسير بعض الظواهر الخارقة وغير المفهومة بالواقع المادي , مثل المعجزات التي أظهرها الأنبياء , ومنها قوله تعالى على لسان إبراهيم (ع) : " وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرّهن إليك ثم اجعل على كلّ جبل منهن جزءا ثمّ ادعهن يأتينك سعيا واعلم أنّ الله عزيز حكيم " ( البقرة 260) قال المفسرون ( فأخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا وفعل بهن ما ذكر وأمسك رؤوسهن عنده ودعاهن فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتّى تكاملت , فلو تأملنا هذه القصة ومع إيماننا أنّ الله على كلّ شيء قدير وهو إيمان بظاهر اللفظ , لكن اختيار هذه الطيور بعينها يثير تساؤلا مهما لدى الإنسان العاقل فكل طير منها يرمز إلى صفة من صفات النفس البشرية ( التكبر والقوة والشؤم والغضب ) وكلّها صفات سلبية ورمز لأمراض تحتاج إلى علاج ودواء ولا يكون ذلك إلاّ بالعقل وفعل الخير الذي يحيي النفوس , و الآية " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها .. " ( الأنعام 122) أو قوله تعالى : " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "(الأنفال 24 ) فالإحياء هنا بالعلم والإيمان , والقتل إذا يكون بالجهل والكفر ,وقتل النفوس أشدّ من قتل الأجساد لكنّ الشاعر يقول :
وقاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشرُ
3- التأويل ضرورة لفهم دور القرآن في معرفة الحاضر, والتطورات التي حلّت بالمجتمعات لبشرية , ولرسم صورة للمستقبل , فقد نزل القرآن في زمن وعصر يختلف عن زمننا وعصرنا , ولذلك ولكي لا يتخلف المسلمون عن ركب الحضارة الإنسانية عليهم أن يفهموا معاني القرآن بروح من يركب الفضاء ويستخدم الآلات والتكنولوجيا المعاصرة , وهذا لا يتحقق إلاّ بتوجيهات تلائم العصر من أولي الأمر الذين يعيشون في عصرنا ,هو إمام الزمان , قال تعالى " فلا أقسم بمواقع النجوم " (الواقعة 75) هل يصح أن يقسم الله عزّ وجل بمواقع الكواكب السَّيارة وهو أمر يعلمه الفلكيون وقوله تعالى " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرِّ والبحر " (الأنعام 97) , هذه المعلومات يدركها العرب وغيرهم قبل الإسلام بآلاف السنين , ومحال أن يكون الباري قد أتى بهذه الآيات بهذه المعاني الظاهرة ، فالنجوم هم الأنبياء والأئمة الذين يهدون الناس إلى طريق الخير والنجاة من الشرك والفساد ,عبر العصور جميعا لقوله تعالى " إنما أنت منذر ولكل قوم هاد " ( الرعد7) فمن هو الهادي في عصرنا , هل هم المشايخ أم أئمة المساجد أم أهل الفتوى بالملاليم ؟ .
ضوابط التأويل :
حددنا فيما سبق أهل التأويل , ويمكن أن نضيف شرطا أساسيا لا يمكن تجاهله في قضية التأويل , ألا وهو أنّ خصوصية التأويل لا تلغي عمومية اللفظ , وهذا ما يمكن تسميته : توازن علم الشريعة مع علم الحقيقة وتناغمهما معا لأنّ مستوى التفكير البشري ليس على درجة واحدة من القدرة , فما خصّ به الله سبحانه أولياءه لا يعمم على جميع عباده , ولو تجاهلنا الشرط السابق فإننا سنقع في ما وقع فيه بعض اخواننا في الانسانية من مغالطات في الفكر والعقيدة , ومن هؤلاء أتباع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية , الذين أوّلوا قوله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا .." (المائدة 93) فقد اتخذوا من تأويلهم لهذه الآية سبيلا إلى رفع الحرج عن جميع ما يطعم بوصول الكمال والبلاغ , كما قامت الفرقة الخطابية وهم أتباع أبي الخطاب بن أبي زينب بتأويل بعض الآيات لإسقاط الشريعة والتحلل من قواعدها في الطهارة والعبادة وتأدية الفرائض , مثل قوله تعالى : " إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " . كما أوّل بعضهم قوله تعالى : " كلمّا نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها .."(النساء 56)وقوله تعالى : " أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يُحيي هذه بعد موتها فأماته اللهُ مئةَ عام ثمّ بعثه .. " ( البقرة 259) لتأييد مبدأ التناسخ . وهو مبدأ مرفوض عند الكثير من أهل العلم , كما رأى أتباع أبي هاشم انتهاء نبوة كل نبي بعد مئة سنة من دعوته مما يؤدي إلى انتهاء الرسالات ...
الظاهر والباطن في العبادات :
هناك نوعان من العبادات , هما :
1- العبادة العلمية : وتتمثل في معرفة الله والتصديق بالرسالات والأنبياء والأوصياء واليوم الآخر ....
2- العبادة العملية : وهي تأدية الفرائض من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد في سبيل الله وطهارة ...
وهناك ارتباط عضوي بين العبادتين ,فقد شبّه أخوان الصفاء العلاقة بين العبادة العلمية والعبادة العملية بالجسد والثوب الذي يستره , فالجسد باطن والثوب ظاهر , فإذا أهملنا العبادة العلمية فقد أصبح الإنسان قشورا فارغة لا نفع فيها , وإذا أهملت العبادة العملية فقد تعرى الجسد وظهرت سوأته للناس , لهذا لابدّ من الانسجام بين الشكل والمضمون فالعبادة العملية دليل على العبادة العلمية , وهي وسيلة من وسائل إصلاح وتهذيب النفس وتخليصها من العادات السيئة والأخلاق الرذلة , واكتساب السنن الإلهية يتمُّ بها , يقول الكرماني : ( فالعبادتان كلتاهما الجامعتان للأعمال كلّها المندوب إليها في الملة الحنيفية مثل الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد والائتمار للقائم مقام الله في أرضه لحفظ أوامره ونواهيه وجميع ما دعا إليه وحثَّ عليه فيها ..) ويقول أيضا : (كذلك النفس في وجودها إنْ لم تعلم وتعمل بالعبادتين وتعنى بهما من جهة حدود الدين ووضائعهم المبسوطة بالقوة الإلهية لم تنجب , ولو كانت من أهل العفاف , فالعبادتان للعاملين بهما والقائمين بشرائطهما سعادة , وللغافلين عنهما والمخلين بأحكامهما من قبيل ما ذكرناه شقاوة ) . (راحة العقل ص502). وبمفهوم آخر , فإنّ النفس البشرية تكون قائمة بالقوة في بداية أمرها , فإذا مارست العبادتين العلمية والعملية تحولت إلى قائمة بالفعل ... وارتقت وسمت إلى الحياة الأبدية التي تمثل الدوام والبقاء والخلود .
ونخلص إلى أنّ العبادة العلمية هي الجانب الباطني ,والعبادة العملية هي الجانب الظاهري , فالصلاة في ظاهرها طقوس يؤديها الإنسان المؤمن , وفي باطنها تهذيب للنفس وصلة بين الخالق والمخلوق , كما قال تعالى :"إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " (العنكبوت 45) . وكما قال المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) . والصوم فريضة محددة فيها مشقة ومعاناة , ولكنّها وسيلة لتهذيب النفس بالصبر والمكابدة والتضحية بالملذات , كما قال النبي (ص) : ( الصوم جُنّة ...) أي وقاية للمؤمن , وكذلك الزكاة فهي طهارة وتضحية , كما قال تعالى : " خذْ من أموالهم صدقةٌ تطهّرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم ..." (التوبة 103) .
وفي الختام أسأل الله العليّ القدير أن يكون عملي هذا موفقا , وما ساهمت به من تأملات محققا , مقتديا بصاحب الولاية وحامل راية الهداية , وصلّى الله على الحبيب المصطفى وعلى آله الكرام نجوم الزمان وربائب القرآن وسلّم تسليما كثيراً .
سلمية في 1/12/ 2010 فائق موسى