(حلم الإمام المعز لدين الله عليه وآله السلام)
روى القاضي النعمان بن محمد قدس الله روحه فقال: حضرت يوما مجلسه ، صلوات الله عليه ، فتحدث مليا ، ثم قال لبعض الخدم الذي بین یدیه: أصلحت الحمام؟
قال: نعم.
فجلس بعد ذلك طويلا ولا أشك أنه قد كان أمر قبل ذلك بإصلاحه ثم دعا بالفرس فركب ، ومشينا بين يديه الى الحجرة التي فيها الحمام من قصره. فنزل وترجل ، ليدخل الحمام فأصاب بابه مقفلا ولم يصلح بعد! وسأل عن المفتاح ، فلم يوجد ، فوقف طويلا وما تنكر منه شيئا ولا بدا منه غضب ولا قال في ذلك قولا. ثم دعا بالكرسي فجلس ، وجعل يتحدث حتى أتي بالمفتاح ، وأصلح الحمام. فقام ودخل ، وما حرك ذلك منه ساكنا ولا أهاج كامنا. وإن الذي زعم له أنه أصلح من العبيد لقائم بین یدیه ، ولقد تداخلني من ذلك غيظ شديد عليه وعلی من یلي إصلاح الحمام.
فتذكرت لذلك حديثا كان حدثناه ، صلوات الله عليه وآله عن بعض آبائه وأظنه محمد بن علي ، صلوات الله عليهم ، أنه كان جالسا مع أصحابه حتى سمع صيحة عالية في داره ، ثم أتاه بعض الخدام فأكب عليه وأسر إليه سرا ، فقال: الحمد لله! على ما أعطى وله الحمد علی ما أخذ. إنههم عن البكاء وخذوا في جهازه واطلبوا المسكينة وقولوا لها: لا ضير عليك ، وأنت حرة لوجه الله لما تداخلك من الروع.
ورجع إلى حديثه فتهيب القوم سؤاله حتى أتاه الخادم فقال: قد جهزناه.
فقال لهم: قوموا بنا نصلي على هذا الصبي!
قالوا: ومن هو يا ابن رسول الله؟
فقال: ولدي فلان سقط من يد جاريه كانت تحمله فمات.
وحدثنا أيضا عن بعض آبائه أن جارية قامت عليه توضئه فسقط الإناء من يدها فجرحه وانكسر ، فخافته.
فقالت: يا مولاي ، إن الله عزوجل يقول: (والكاظمين الغيظ).
قال: قد كظمنا غيظنا.
قالت: ويقول: (والعافين عن الناس).
قال: قد عفونا عنك.
قالت: ويقول: (والله يحب المحسنين).
قال: فأنت حرة لوجه الله.
وما أحصى ما رأيت المعز في مجلسه وتصرفه في خروجه يعترض بما يوجب العقوبة والغضب ، وربما اعترض عليه بعض عبيده في رأيه ، وقطع عليه في كلامه واحتج عليه من يأمره ويخاطبه ، ويراجعه فيما لا ينبغي المراجعة فيه ، مما يضيق لذلك صدر من حضره وسمعه ، فما رأيته قط قد غضب لشيء من ذلك ولا عاقب فیه.
وأكثر ما رأيت منه أنه خرج يوما إلى خارج المنصورية في بعض ما يخرج له ، فازدحم الناس على ركابه و أحاطوا من كل جهة به يسألونه حوائجهم ويرفعون إليه قصصهم ، وقد كان أقام لذلك من يتولاه فأبوا إلا مواجهته ، وهو في ذلك مقبل عليهم ويستمع منهم ويأمر بقضاء حوائجهم ، إلى أن جاء من ذلك ما لم يمكنه معه المشي ، ونفر به الفرس الذي تحته ، ودار به. فأمرهم بالانصراف ، وأمر من بین یدیه من المشاة دفعهم ، وتناول رمحا من يد بعضهم وقال: ما جزاء أحدكم إلا ضربه ثم نظر صلوات الله عليه وآله إلينا وتبسم في الحال بعقب ذلك وقال: أترون ما نحن فیه؟ وتحدث به ، كأنه لم يعارض بشيء.
ولقد نالني ومن رأیته حولي ممن كنا نسايره لما رأيناه من ذلك غم وغضب شديد ، فلا والله ما كان منه ، صلوات الله عليه وآله في ذلك إلا ما ذكرته مما استعمله وطبعه الكريم يظهر استعماله إياه كما كانت عادته ، عليه السلام.
قال: وركب المعز صلوات الله عليه وآله يوم من الأيام في الربيع إلى مكان وصف له أن فيه نهرا حسينا ونبتا عميما وفي الطريق الحامل إليه مثل ذلك ، فلما خرج من باب المنصورية إكتنفه الناس يسألونه حوائجهم ، ويرفعون أمورهم فما زال يقبل بوجهه الشريف على الواحد بعد الواحد ، والجماعة منهم ويكلمهم ويحييهم حتى إنتهينا إلى المكان الذي وصف له وانصرف وهو على مثل ذلك ما يملأ مما أراد النظر إليه عينه ولا أعاد طرفه إلا اختلاسا ، ولا ضجر? ما كان من أمر الناس وإنا حوله لضجر له بذلك وإن المشاة بين يديه ليدفعون الناس فيأمرهم بتخلية من دفعوه وان كثير منهم ليطيل مسايرته ويكرر حاجته فيأمر من حوله بالانصراف فينهاهم عن ذلك ويأمر أن يدعوا من ?لمه إلى أن يقضي حاجته وينصرف عن رأي نفسه ، وكان هذا دأبه في وقت خروجه ، صلوات الله علیه وآله.