بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد
يا الله يا محمد يا علي
مما تركه أمانة لدي الأستاذ الكبيرهشام الحرك رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه
الكلمة الأولى
سيكون لنا من هذه الدورة المفتوحة أمام تلمساتنا الذهنية، وتحسّساتنا الفكرية، والذاتية، ما يشهّي فينا العزم للدخول إلى المحراب الوسيع المداخل والمخارج أمام خطوات الإمام الممتلئة بعزم الروح، وجلال العقل، وفسحات البيان.
وسيكون لنا أن ندرك: أن المحراب الفسيح والمعزّز المداخل والمخارج، إنما له سقف واحد رفيع وشفاف، تمجّده روعة الحق، ومهابة الصدق، وجلالات الفضاء المتناهي بالتعبير عن هالة سرمدية، هي غلاف الكون، وهي كل النور الذي تغرف منه عين الإمام.
إن الرجل الملمّ، والذي هو الإمام الصادق، كان وحده موسوعة علمية، وإن أسباباً وأوتاداً جليلة كانت وراء طاقته التكوينية المتينة، ساهمت في شحن المعارف الوسيعة إلى عقله المركز، وإرادته المعتصمة بالمران الأصيل، ونفسيته المبنية من حواشي الفهم المطلق.
ولكن الأسباب والأوتاد ـ وقد لمّحت عنها بلمح مفرد ـ تبقى وحدها العظيمة والمحتاجة إلى كثير من الشرح الدقيق، فالإمام السادس، وهو نقطة الوسط في الدائرة الإمامية التي رسمتها فطنة النبي العظيم لسياسة مجتمع الإنسان، وتطويره بكل ما ينتجع به نحو الكمال، هو الآن في مهمة الصادق الواصلة إليه من جده علي، عبر أبيه الباقر، وها هو العازم الآن على التجريد لرفع قيمة العلم وتركيزه في المجتمع تركيزاً لا يجوز إلا أن يكون متمادياً من جيل إلى جيل، لأن العلم وحده ـ في تماديه المتواصل، وتركيزه الدائم ـ هو الوجبة الكاملة والتثقيفية في كل تحقيق حضاري يزين الإنسان بالمجتمع الإنساني الجميل.
تلم هي الأسباب والأوتاد، أشرت إليها بإيجاز، وهي المشتاقة إلى الإسهاب، فالأسباب الأصلية هي التي نوّهت عنها بالتلميح الصغير، أما الأوتاد فهي في الإمامة المرسومة لتنفيذ المقاصد، بمحو الجهل من عب الأمة، وساعتئذ فإن الوعي الكبير هو المنتظر في ارتباط الخط الدائري، والتحامه بالبهجة الكبرى:
أشير إلى كل ذلك وأنا أحضر نفسي للدخول إلى محراب جليل، وفي يقيني أن أجعل خشوعي مسعفي، أدفعه أمامي، وأنا على بوابة المحراب أقول: سبحان الله الذي زيّن عملاقاً من عمالقة خلقه بموهبة بليغة تسوّرها محيطات الجمال.
إن الإمامة، بمعناه العظيم ومحتواها العميم، هي المظلة المستريحة، تنشر فيأها من ضلوع ستائرها: فهي المُظلة وهي المُشعة في آن واحد، لقد حبكت حبكاً متيناً ـ حبكتها الغاية والحاجة، لتكون فيهما كل الوقاية ـ إنما الرسالة العظيمة والمفجوجة من مطاوي الحق، هي التي حبكتها من ضمير الإحتراز.
هكذا فلنعتبر الإمامة تحضيراً خطيراً لتعهد رسالة ما ولدت لتنظيم ساعة واحدة من عمر الزمان، بل لتنظير مبين يدغم عمر الزمان بعمر المكان..
يا للرسول العظيم، يخشع في غار حراء، حافراً ساعات الزمان، على جدران المكان.. فإذا بسقف الغار وصلة أرض بسماء، وإذا بإنسان الجزيرة ينفض عن بدنه الغبار، ويروح إلى تحقيق ذاته بتوسيع الذات..
ويبرز إلى نور مجتمع جديد كان ينام بين سرابين: سراب من مكان، وسراب من زمان.. وتعتزّ الرسالة بأنها أنهضت أمة طال نومها تحت الرماد ـ وإن الحقيقة لتقال: من أجل الأمة جاءت الرسالة، ومن أجل الرسالة تبعث الأمة.. إن الرسالة ـ الأمة، وإن الأمة ـ الرسالة، هما الكلمة الموحدة في ضمير النبي العظيم.. والأمة هي المجتمع الإنساني، والرسالة هي الحق الذي لا يفتأ يبنيه.. والإنسان هو الذي يقرأ الرسالة فيحييها إذ تحييه، وبه ـ عمياً ـ تنشل الرسالة !! ولكنه ـ بدونها ـ تنشل مآتيه..
أليس هؤلاء كلهم هم أجداد محمد: ومن بابليين، وكلدان، وآشوريين، وكنعانيين، فينيقيين، وآراميين زينو الحرف الذي نطق به المسيح بن مريم، حتى إذا ما جاء محمد، أبهرهم بقرآنه الكريم. وعلي نهج بلاغته.
تلك هي الرسالة، يطل بها العهد من غار حراء، تزنر الأمة بزنارين متكاملين ومترافدين بالشعار، حتى لا يعتريها أي عثار: الزنار الأول: هو التدين بالله والاستعانة به في برزة الحق وروعة الأخلاق. أما الثاني: ففي التقيد بمنظومة الإمامة المتسلسلة من حقيقة المصدر، يرسخها المران بالصدق، والعلم الكامن في جعبة الفهم والوعي وروعات الإتزان، أما العلم، فهو للأمة منها ولها في الميراث، فلتفتش عنه لتغتني به، وتزيد عليه، فليس غيره في محو الجهل، وتنوير الذهن، ومسح الذات بالدهن المقدس، وتحقيق الحضارات التي هي خلود الله في مجتمعية الإنسان.
ولكن الإمامة تبقى دائماً مشتاقة إلى تجديد شجاع يوضحه هذا القول: إنها علم من علوم النفس الزكية، تفتش به عن كل ما يوسع مداركها من حق وخير وجمال، لأن الصفات المميزة التي هي من احتباءاتها، ستكون وفيرة لديها من وجوب إحاطتها بمجمل العلوم والمدارك، حتى يتسنى لها شرف النشر، وشرف البذل، وشرف السخاء وشرف الإلمام والإحاطة.. فتلك هي مقوماتها المفروضة عليها للإكتمال، تغدقها عليها الرسالة، وتلك هي شروط السياسة، توفرها الرسالة، تحقن بها عزم المتسلم تسديد خطوات الأمة، بتقويم الإنسان وتصويبه بجلاء البصيرة..
أما لماذا يكون للإمامة هذا التخصيص المدلَّل بوجاهة الإمتياز؟ فلأن النبي العظيم في إحاطته قد اقترحها حرزاً.
بصفته إماماً موكلاً إليه ضبط شؤون الأمة، ضمن خط مرسوم اقترحه ـ بذاته ـ النبي الرسول ولي الأمة، هو الواعد الأمة بيوم أشعة تستضيء به وتبدأ تقرأ... وبعد أن تتمرس بالقراءة، تتقنها وتبدأ تفهم... وبعد أن يتأصل فيها الفهم، تهضمه، وتبدأ تدرك: أن الحياة حق، وخير، وجمال، وهي التي تستوعب هذه المواهب، بعد أن تعيّنها لها، وتزرعها في طاقتها، وتغرف منها ما يقيها، وينميها، ويسدِّد خطواتها فوق الدروب، وعلى فسحات الفواصل والمفارق!
وكان للإمام الثالث اقتحام عاشورائي، زرع في بدنه مئة سهم. وألف إشارة إلى عنفوان النبل... وها أنا الآن ـ يهجس الإمام ـ في انتظار القدر ذاته، وأنا ألفلفه بالصلوات والأدعية، ليحترم الأمة، ويغسلها بالفهم، ويخلصها من مسلسل الأدران، ويُزَهَي لها يوم الغد بعلم تحققه ويقوّي لها جناح الفهم وأوتار الحقائق!
وهكذا اعتزل الإمام سياسة عجفت بمن يعجنها، واشتاق إلى الأخرى التي بنيت الصواب، وروح الحقيقة، وشمس تأخذ منها الأمة ضوءاً لها، ودفئاً وخصباً، وإمراعاً. سيكون للعلم تحديد معنى السياسة في كرسي حكم يسوس الأمة: وهو يوسع لها دروب الحق، والعدل، وروعات البيان ـ وهو يبعد عنها صنوف الجهل، والزور، ومغامز الخيطان، وهو يوسع لها الجوّ، والسهل، ومدارج الشطآن، وهو يعزز فيها قيمة الله، وقيمة الخلق الكريم، وقيمة الحياة في سجية الإنسان.
فهو: عقل في تمام الصفاء... وذكاء: في ماهيات الاستيعاب... وذاكرة: في ماهيات الاستيعاب... وذاكرة: في مدى التسجيل، والتحصيل، والابتكار... وعلم: يوسعه من طبيعة فقراته، ويأخذه من ضغوط بصماته... وحلم يجسده من واقع خطواته في اليقظة، لتستفيد منه عتمة الظن!!
فعلاً لقد قرأ الإمام الباقر ابنه جعفر، قراءة مصمدة الحروف في باله، على طول المدى الذي مشاه بين يديه في الجامعة، وكانت القراءة صحيحة في مختصرها: بأنه رجاء الإمامة، لأنه عزيز الجوهر... لأنه سيكون الصادق الصادق في النهج والاستمرار في تتميم شروحات الرسالة، وتكميل السير بأهداف الإمامة.
ومن هنا إن النعت تَلبَّس جعفر، وها هو مغمور به: من ساعة غياب أبيه إلى هذه اللحظة التي تبقى وتستمر كبيرة صادقة بالملازمة!
ومن هنا ـ بالتأكيد ـ تبقى العلوم.. على وسع مداها... بانتظار جهد باقري ينقلها بالتفجير المستمر إلى الصادق الذي تعهدها بالاستقراء، والاستنتاج. وربط الأسباب بموجباتها، وإلى كل مريد يرتهن بصدق مداها...
وتبقى ـ ما عدا ذلك ـ خطوط الارتباط حاضرة في ذهن الأمة، تذكرها بأن قوة الأمة مشدودة بمناعتها العلمية المتنامية ـ من جيل إلى جيل ـ حتى إذا ما توانت عن اطِّلابها، فلا تلومنّ لا الباقر ولا امتداده الصادق... لأنها هي التي تكون قد صفعت ذاتها بجهل مطبق، لا تزال تتمرغ به قوافلها المشدودة على الخطوط الأوابد!
يا للباقر، يتمناه الرسول مزروعاً في أصلاب الإمامة، يفجر العلم غذاء للأمة فينقذها من جوعها المدقع! ويا للصادق، يرجوه الرسول مخزوناً في نهى الإمامة، حتى يصدق في نشر العلم، يدبِّج به يقين الأمة!
هكذا كان الباقر اسماً لبيك، عيَّنه شوق النبي قبل أن يتجسد ابوك في لحم ودم، وهكذا كان الصادق نعتاً عظيماً للطيبين، تمتم به جدك النبي، قبل أن ترسمك في رحمها ـ أمك ـ بنت القاسم.
واسمك "جعفر"؟ من طرَّزه بالصادق، غير جدك الإمام زين العابدين، وقد حملتك إليه ـ القابلة ـ ملفوفاً بقماطاتك؟ لقد كان أبوك الباقر ـ في ساعة هبوطك إلى صحن الأرض ـ مشغولاً بالتفتيش عن شروحات العناوين العلمية التي حَوَّشها مشرورة ـ هنا وهناك.
يكفينا الآن منه اقتضابه ـ قام بإلقائها في روع حفيدة إمام اسمع زين العابدين، تناول جده الإمام علي، وامتد به إلينا بسجادات أدبية ـ فكرية ـ بيانية، هي روعة أخرى في محاكاتها بهج البلاغة.. وهو ـ ما عدا ذلك ـ رأس مدرسة جديدة راح يركزها بابنه الإمام الباقر، ويصقلها بحفيده الإمام جعفر، لتكون إصلاحاً لما أفسده الدهر من أمة لن ينتصر بها ولها إلا العلم المتوازي بثقافات منتجة حضارة تعيِّنها وتعيِّن لها سياسة عاقلة تمشي بها إلى تحقيق إنساني، وإلى إقامة عمران، وترجيح بنيان، وتخليص مجتمع من ذلٍّ، مميت، وحقد مشبع بالهوان!!
لم يكن علي ليعيش أكثر من فسحة عمر، إلا أنه كان أرجوزة من بحر المواهب، حتى إذا ما تهذبت به في الأمة أسبابها، وأوتادها، ودمجات قوافيها.. فالأمة تلك هي المستكينة في مجانيها، والمستريحة في نجاواها.. وعن ذاك، أين هم بنو طالب، أو بنو حرب، أو بنو مخزوم؟! وكلهم أمة الإسلام، في وحدة من عبير الحق، ومزاهر العمران، تلف الدهر بالزهر، والإنسان بعبقرية الإنسان!!
وأنشدت الإمامة ـ وهي الطالبية في الزمام ـ والطالبية في ردح النبي ، هي الصفات الأريحية المطلوبة "تخصيصاً" في بنية الأمم، ولا شأن لها بالعصبية المعصوبة بها بدوية الرعيان.. وهكذا صاغها حرص النبي حرزاً من اثنتي عشرة نصلة مسنونة ومنقولة بالإرث: من أب، إلى ابن، إلى حفيد، على أن يُطبِّب النقل تعدد الأثقال: ثقل من فهم منخوب، وثقل من علم مجتنى، وثقل من مران يأتزر به جيلان أو ـ ربما ـ ثلاثة أجيال: من جد، وأبن، وحفيد.. وثقل من تربية مميزة برتبة الإمامة، وثقل مرجَّح بمسؤولية إرادية وإدارية تتناول الأمة جمعاء.
فكل كلمة كان يوجهها الإمام العملاق بسجوده الناطق بالمخمل، كنت أراها منزلقة من بين ثناياه الممسوحة بالورد، كأنها رؤوس ازاميل دقيقة رقيقة، ولكنها منداة بما يتندى به بتلات البنفسج في هلهلات الصباح.. وكنت أراها، في اسياقها البتول، كالانهمار في اذن الفتى جعفر، كأنه ـ كله ـ بوق اذنه المشدودة بإحساس "نفسي" يلتهم ما ينهمر إليه، كما تلتهم نجمة الصباح كل هالات الصباح!
فعلاً كنت مأخوذاً بما أرى بعين النفس التي هي من شفافيات الفضاء، وبما أسمع بأذن الشوق التي هي إصغاء لنهدات الضياء.. وكانت كلمات الإمامة شفافة بانزلاقها من معدنه الصادق الجوهر، وكان نزولها حفَّاراً في بلُّورة جعفر، لأن المحفور فيه هو من خميرة وحذاقة الحافر، في ألمعية مربوطة بذات الجذع ونفس الجذور!
ولم ييأس زين العابدين من التكرار المجدد، وإن خاب به ـ قبل أبيه ـ الإمام الحسن، وتجرعه مجعداً في السم!! ولم ييأس منه ـ حتى ـ وإن تضرج به الإمام الحسين عطشاً في الكوفة، محرقاً أحمر.. لما تطفئه بعد دموع الإمام الحمراء!! وها هو ـ في المربع المخمس بابنه الباقر، والمسدس بحفيده جعفر ـ يربط الأيام الضائعة من عمليات الحساب، بيوم جديد تتلملم إله أرقام صحيحة، تتشدد بها عمليات الحساب!! وهكذا التكرار، لم يقطعه اليأس عن محاولة هي المؤمنة بحقيقة الأمة المفتشة ـ أبداً ـ عما يصلها بحقيقة باهرة وعدها نبيها بها ورحل، ولن يعود إليها نبيها الحبيب المربوط السوار بالمعصم، قبل أن تناديه ـ هي ـ بأنها وجدت حقاً ناداه إليها، يرفعها هداية بين العالمين؟
أجل، أنه الإمام زين العابدين: صاغ إمامته الأنموذجية، بعد أن ضمخها بذراعيه، ولفها إلى صدره، وسقاها ذوب قلبه وكل شلالات عينيه، وها هي خارجة من عبه: إمامة يدل إليها، ويصرح عنها: هدف واحد، وأداء واحد، وإخراج واحد.. إنها ـ فقط ـ لأن تكون علمية، جامعية، توحيدية، تثقيفية، انفتاحية على كل المدارج الفكرية، العقلية، الروحية، الاجتماعية، على قبول منها ـ صريح صادق ـ يبعدها عن كل تدخل سياسي يبقى مختصاً برجال حكم يديرون شؤون الأمة ويرتبون مواعينها.
لم يكن تنحي الإمام عن السياسة ـ كما علمنا وتفهمنا ـ إلا احترازاً منها مع مولَّهين بها، يعتبرونها صدارة لقوم، ومكسباً لجاه، وتزعماً لسلطان، فوق ما هي بوابة لشراء موسع بقصور تفحش فيها صنوف التذليل، والتشهي، والاستعباد.. ولقد استهجنها ـ بشكل مريع ـ ويعد وبعد خلو الساحة من النبي الكريم، أداة فتك بأهله الطالبيين، يكل إليهم الرسول رعاية أمة ستبلغ بها الرسالة إلى شأو منير، وها هي السياسة هذه، ليس لها هدف مرجو إلا تحطيم الفئة المخصصة بالإمامة، والتربع في محارمها، وتجريدها من مكارمها.. وها هو ـ فعلاً ـ عليُّها الحائك الأول، تحذفه من نسيج الأمة تلك التي تدعي أن لها الخيط، والمكوك، والمغزل!!
لهفي على جدي علي، يقول الإمام زين العابدين: تسطو عليه جريمة النكران بالنصلة البلهاء! ولهفي على عمي الحسن، تسقيه السم تلك العاهرة السفاكة الشنعاء! ويا نكدي ونكد الدنيا على أبي الحسين، تمرغ الأرض بالفسق والجور، وتسقيها شأبيب دمه، تلك الفاجرة النازلة لطخة على جبين عاشوراء!!
كلنا يعلم أن علياً الصغير ـ ابن الحسين من الأميرة الفارسية شهزنان التي وضعت ابنها البكر وهي في سكرات الموت على فراش الوضع العسير ـ كان مطروحاً، مريضاً بإسهال عنيف، في المخيم المنكوب في كربلاء، وقد ضرب الحصار عليه جيش يزيد لمدة عشرة أيام.. إن علياً هذا، وكان في الثالثة والعشرين من عمره المقهور، قد شاهد بأم عينه تقويض المخيم، وتمزيق جسد أبيه الحسين تحت زخات السهام.. وهو الشهيد الأثبت والأوفى، والذي ابى أن يرضخ لحكم ظالم فاسد، وجاهل متعسف، فسَّخ الأمة التي جاء نبيها لينقذها من جاهليتها العمياء، ويبنيها حقاً جديداً، يصلها بماضيها العظيم الذي كانت فيه جميلة، وبهية، وسخية!!
لقد رأينا ـ هذا العلي الصغير ـ يبكي غزيراً، ويصلي طويلاً، ويسجد ركوعاً مديداً!! فعلى من كان البكاء؟ ولأي مبتغى كان السجود، وكانت الصلوات؟!! صحيح، كان البكاء على أبيه الحبيب المخزَّق والممزَّق!!! ولولا الحقيقة الكبيرة، والعظيمة، والجلية التي آمن بها، وانضوى إليها بعشق والتزام، لما تخزق أو تمزق!!
إنها كثيرة والحمد لله المستريح في مواهب ذاته، يوزع على خلقه من فيوض لدنياته: حقاً على طالب الحق، وعلماً على طلب علم، ورجاءً على طالب رجاء.. وإن الصدق في التمني هو المستجيب فالمستجاب! فسبحانك يا إله الخلق، تلوَّن الأرض بالعباد، والعباد بألوان الرشاد.. فإذا سجدوا، سَجَدْتَ بهم إلى ملكوت، وإن ضلوا رشاداً، فإلى مواعيد الرشاد.. كأن الإنسان هو ابن حرية مثلى حتى إذا أراد كان له ما أراد!!
يا للإنطباق في التمني الأصدق، يصمّم به الإمام زين العابدين إمامةً مثلى، يبعثها من إيمانه اللجوج بعلم تحتاجه الأمة، فيحوّشه الإمام الباقر ـ لأنه أراد ـ ويفجره تحت عتبات المسجد، ولا يختمر إلا به الإمام الصادق، في رغبةٍ واسعة الاشتياق، فإذا هو مجموعة اختصاصات وصلت إليه مستريحةً كأنها وصلة من جزاءٍ تمنَّاها فنالها كما تنهمر الهبات!
بمثل هذا الانسياق المتوازي رأيناه سجوداً مشغوفاً بجده الإمام زين العابدين ـ لمدة عشر سنين ـ يتشرَّب منه سكبات المناهل، كأنها أراجيز من بحور المعارف الغنية بالقوافي، وبكل روعات الفواصل، والمخارج، والمداخل.. وهكذا انفتحت أمامه: سجلات التاريخ، وسجلات الأبجديات، والحضارات، والجغرافيات، والفلسفات ـ وما ارتباطاتها كلها إلا بالإنسان، ومجتمعات الإنسان..
وما إن انتقلت به المحطة إلى مندرجات اليقين، حتى انتقل به المجال إلى التبصر المطلق، فراح إلى الفلسفة ـ مثلاً ـ يستجليها في مراميها فيُبهيها بما فيها من مداليل الحق، ثم يلوي عليها، بالشفرة المسنونة، فيقطع منها ورماً وخيماً جائماً في ثآليل البُطْل!!
كالتوجيه العظيم الذي أسبغه الإمام زين العابدين على حفيده جعفر الصادق، إن العظمة فيه أنه حياكة فنية، على نول رشيق، بمكوك أنيق، وخيط متين الغزل وصادق التنسيق.
بعد نيف وعشر سنين، ترك الأمام الباقر مؤسسته الجامعية في عهدة ابنه جعفر البالغ اثنين وعشرين من العمر المكدور بالجهد الفريد، والتحق بأبيه الإمام زين العابدين، ليخبره أن الأمة ـ من بعده ـ إنما هي ماشية على الخطوات المرسومة، هذا إذا صفا لها جوٌّ يهددها بكثير من العكر، مع أُفول نجم بني أمية، وبروز نجم آخر، يتظلل به بنو العباس تحت عباءة من ليل يرتديها السفاح، ويتلطَّى ـ ضمن خيوطها ـ المنصور الداونيقي الذي لم تتلقَّح بأدهى منه أرحام النساء!!
وتزاحمت المواهب لاحتلال شخصية هي ذاتها العبقرية التي جاءت تلبية لتوجيه عبقري يخلّص أمة من تقهقر تاريخ، ويخلص رسالة من أصفاد تكبلها عن مداها الروحي والإنساني، وتحجزها عن أي بلوغ حضاري، ومثالي.
وإنها المواهب ـ بتوافرها الانصبابيّ في شخصية واحدة ـ صاغت من جعفرها أحدوثة لا يجيد النطق بها إلا صفّ عريض من علماء لا تتمكن من تصنيفهم إلا أمة عريقة في ظلّ حضارة من حضاراتها الأنيقة، وإنه لمجد من الأمجاد في ظل من المفاخر، أن تشير الأمة ـ بأصبع من أصابعها الهزيلة ـ إلى واحد منها اسمه جعفر الصادق، عبّّر عن تمنياتها المقهورة، قبل أن يرحل مقهوراً!! أقول ذلك وأنا أعني: أن الأمة تقدر أن تنبت أكثر من جعفر، يمحضها بتحقيق جعفري يقودها إلى وصول، هذا إذا استوعبت شوقاً مُريداً، رأينا كيف سكبه الإمام زين العابدين في عروق حفيده فالتهبت عروق جعفر بعصيرها الموهوب!
لقد كان التوجيه كله شحذاً لعبقرية شديدة الذكاء، كان يراها الجد خاطرة في عيني حفيده، فراح إلى تنميتها ودفعها إلى عزم يفعل، لأن المرارة التي تذوَّقها الرجل العظيم والأبيّأ بتأخير قرآن جده النبي عن بلوغ مرامه في دفع الأمة إلى مداها المشتهى، وبتجميده جده الآخر ـ علي ـ في خلوة صغيرة تيبَّس فيها، وخلف عينيه مجالات من أشعة بقيت مطموسة بين دفتي نهج البلاغة، لتبقى له ـ من ابنه العظيم الآخر ـ الشهيد الحسين، شهادة كربلائية فجَّرت دمه، لتبقيه ـ فقط ـ ذكراً عاشورائياً يحيا به الغد الثاني!! أجل، لأن المرارة المجذَّرة في أغلفة جنانه، حرَّكت في طوايا ظنونه أملاً تتلفظ به الأمة وتعود فتبني به حقاً ضائعاً عن قارعة الطريق! وهكذا ربط بحفيده جعفر روعة الأمل، وراح يحضِّره ـ بشوق باهر وساحر ـ بأن العلم وحده، هو رجاء الأمة التي هي حصن الفرد، ومآل الجماعة، وهي ـ إذا تتعلم ـ تخلد بالنبيّ، وبعليّ، وبالحسين، وبالتاريخ الذي ضاع، وبالحق الذي يعود فيذود عن نفسه، لأنه لم يرد أن يضيع!!
وتربَّع الجعفر ـ وعمره عشر سنين، بشوق حجمه ألف عام ـ على طراحة من ريش طاووس، قرب أبيه المغمور بالورق المنقوش بريشة من حبر.. وراح ـ من استفهام إلى استفهام، ومن استلهام إلى استلهام ـ يشارك أباه المنهوك بوطآت الإلتزام!!
أما الروحية، فإنها تعلمها ـ بالمقابل ـ غوصاً في عالم النفس، وعالم الفكر، وعالم الحق، وكل مساحات الجمال.. وتعلمها الفنون بالوصول إلى حقيقة الحرف، وأصدقية الميزان، وتعلمها كيف تبني الصحة من مفصل العلة، والقوة من هذيان الضعفاء،
والغنى من مجاعات الفقراء، والبطولة من غطرسة البغاة، والإيمان من عمى الكافرين الملحدين!!