من وحي المسير الرّياضي إلى الصفاوي، والشيخ علي...
***********************************
انطلق بنا المسير الرّياضي لهذا الأسبوع إلى محور طرق الصفاوي،ومنطقة الشيخ علي، وهاتان منطقتان واقعتان جنوب شرقي سلمية، بمسافة تقدّر بعشرة كيلو مترات...
***********************************
أصدقاء المسير يحثّون الخطا على دروبه،ويصعدون إلى ذروة تلّ الشيخ علي..أحد أوابد سلمية الأثرية...
***********************************
أولاَ: الوصف العام لمنطقة المسير، ولبعض أوابد سلمية:
ومنطقة المسير منطقة سهلية مفتوحة على كلّ الاتجاهات، والطريق إليها طريق ريفي معبّد حديثاً، تتناثر على جانبيه المزارع المبعثرة في كلّ اتجاه،وقد كست طبيعتها حلّة خضراء من أشجار الزّيتون والصنوبر..
********************************
الطبيعة الوارفة الظلال على أحد دروب مسير اليوم..
*********************************
وهذه المنظقة كانت قديماً حوضة من المياه، حيث كانت قناتا: الشيخ علي،الأولى وتقع من الجهة الجنوبية لتلّ الشيخ علي، والتي ماتزال آثارها وأوابد أطلال مجراها،محفورة في الأرض حتى الآن،و الثانية:قناة الشيخ علي الغزيرة، وتقع من الجهة الشمالية للتلّ المذكور، وكانت القناتان تخترقان أراضي هذه المنطقة، وترويان سهول هذه المنطقة، حتى مدينة سلمية وعلى بعد أكثرمن خمسة كيلومترات باتجاه الشمال، والغرب، وحيث كانت الأمطار الغزيرة،التي تهطل مبكراً في فصل الخريف،أو في فصل الأمطار، تشكّل سيولاًً جارفة(طوفة) تنحدر عبر وديانها ومنخفضاتها حتى تدخل إلى أزقة وشوارع حارات سلمية مهدّدة إياها بشتّى الأخطار الماديّة، والمعنوية وحتّى البشرية..وحتى الآن عندما تنعم السّماء علينا بمزنة غزيرة ،فإنّ أودية هذه المنطقة تمتلىء بالسّيول وتفيض على ماحولها من أراض مزروعة، وغير مزروعة... سقى الله أيام زمان، وأعاد لمنطقتنا غيثها المدرار، وجعل نباتاتها وأشجارها ريّانة..!!
وفي وسط هذا السهل الفسيح يتربّع تلّ الشيخ علي الأثري مثل كهل أتعبته السنون...فاتكأ على مسند،أو أرخى بثقله على عكازه...!!
***********************************
تلّ الشيخ علي أحد أوابد سلمية الأثرية، يتكأ على صدر الطبيعة، كمحارب قديم أتعبه القتال....
***********************************
أو كمحارب قديم أتعبه القتال،فجلس على مصطبة الدّهر يستريح،مخلّفاً وراءه ذكريات من البطولات والأمجاد،لم يبق منها إلا أطلال وأوابد أثرية، تتغنّى بذلك المجد،وتردّد أناشيد أمجاده..ولكنّها أيضاً أطلال دارسة لاتجيب إذا سألنا،ولا تتألّم معنا إذا ما شكونا قسوة الدّهر،ومن الجهل أن تخاطب بقايا آثارها الدّارسة،يقول الشاعر الطباطبائي:
ولقد وقفت على الديار مسائلا == عن اهلها بطوامس الاطلال
اخفي السؤال بها ويعجم ربعها == ومن الضلال سؤال ربع خالي
واليوم وعلى سفوح ذلك التّلّ لاترى إلا بقايا كهوف ومغاور،ربما كانت محفورة من الماضي،وربما نقّب فيها النّاس في محاولاتهم اللاهثة للعثورعلى اللقى الأثرية،وفي ذروة ذلك التلّ آثار قصر ملكي،وعلي امتداد محيطه، تلحظ بقايا سور قديم كان يحيط بتلك المملكة قديماً..ومن أعلى التلّ الآبدة تطلّ على سلسلة تلال العلاة الواقعة غرب سلمية والتي تتوسطها شميميس كعروس جلست على أعلى منصّة مختالة بجمالها وعظمتها...
**********************************
أوابد سلمية الأثرية متمثلة في سلسلة تلال العلاة، المتناثرة عند الأفق البعيد، تتوسطها قلعة شميميس كعروس جلست على أعلى منصّة مختالة بجمالها وعظمتها...
***********************************
وفي الحقيقة يحقّ لها هذا التباهي والافتخار فهي رمز شموخ سلمية وإبائها.
ولسلمية نصيب في مسير المتنبي من حمص قاصداً حلب،
فيتراءى لي، وهو يمتطي جواده ويعبرمع كوكبة الفرسان تلك الرّبوع الميمونة،ثم ينشد واصفاً مسيره فيها:
فَأَقبَلَها المُروجَ مُسَوَّماتٍ == ضَوامِرَ لا هِزالَ وَلا شِيارُ
تُثيرُ عَلى سَلَميَةَ مُسبَطِرّاً == تَناكَرُ نَحتَهُ لَولا الشِعارُ
عَجاجاً تَعثُرُ العِقبانُ فيهِ == كَأَنَّ الجَوَّ وَعثٌ أَو خَبارُ
فانظر معي منذ متى وسلمية تشتهر سلمية بالغبار المسبطّر،لأنّ الشاعر عبّر عن ذلك عندما وصف الغباربالكثافة يقول:إنّ العقبان التي تسير مع الجيش تعثر في ذلك الغبار،فكأنّ الجوّ أرض ليّنة لكثرة ما ارتفع من غبار الخيل.
ثانياً:الخريف الحزين...!!
فالوضع اليوم مأساوي،وخريف هذا العام جاف ومجدب..فنحن الآن في بداية تشرين الثاني،والمطر لم ينهمر بعد..لقد جفّت حلوق النّاس ،ولبست الطبيعة ثوب بنيّاً بلون عفير التراب،فلانبات أخضر ولازرع، ولا ضرع....
***********************************
الطبيعة الجرداء...تنتظر غيث السّماء..ويرى في المشهد بعض أصدقاء المسير..يتابعون السّير على دروبه القاحلة..
**********************************
والكلّ يصرخ ويستغيث:اللهمّ ارحمنا،اللهمّ أغث البلاد والعباد..أنت المغيث، وأنت الرّحيم..ياكريم..!!
وكان قلبي يتفطّر أسى وحزناً،وأنا أتمعّن في تلك الأراضي التي كانت في يوم من الأيام جنّة من جنان الدّنيا،واليوم آخذة في التّصحّر شيئاً فشيئاَ،وكم نتوق إلى سقياها من ماء الفرات العذب،فمتى يا أبناء منطقتي الأعزاء يتحقّق حلمنا بتدفق ماء الفرات في سهول هذه المنطقة الخصبة ...؟؟والتي لاتحتاج إلى معالجة، أو استصلاح كأراضي وادي الفرات..متى..متى يتحقّق هذا الحلم...؟؟ لعلّنا نراه حقيقة قبل أن نودّع هذه الدّنيا الفانية..!!عندئذ فقط سيعود لخريف هذه المنطقة ابتسامته،وتزول كلّ آلامه وأحزانه..!!وعندئذ فقط ندفن التصحّر، وتبتسم للكائنات الحياة..!!وكما أنّ مناظر الأرض القاحلة الجرداء التي تحيط بنا ،تضعنا في أجواء من الكآبة والحزن ونحن نغذّ السير على دروب مسير اليوم،كأجواء حزن الشاعر ابراهيم الرّياحي الذي رحل أحبّته في مسير لاأمل لرجوعهم منه..فهو حزين عليهم،مع فارق بسيط أنّ حزننا مستمدّ من مشاهد الخريف الحزين،الذي فارقنا بهاؤه وجماله هذا العام،بينما حزن الشاعر مستوحى من فراق الأحبّة الذي رحلوا عنه،وتركوه يكابد على فراقهم..يقول الشاعر الرّياحي:
قد سافروا سَفَراً جَدَّ المَسِيرُ بهم == فيه فليس إلى رُجْعَاهُمُ أمل
وعاد حُسْنُهُمُ قُبْحاً وأُنْسُهُمُ == وَحْشاً وحزنُهم نَامٍ ومُتَّصِلُ
وهكذا حالنا اليوم، ونحن نعبر دروب مسير الخريف الحزين..!!
ثالثاً:لقاء مع صديق مغترب..!!
كان صديقي في بعض مراحل المسير اليوم، شاباً مغترباً يعمل في الإمارات العربيّة المتحدة،جاء بإجازة قصيرة لقضاء بعض الأعمال الخاصة،ودار حوارنا عن طبيعة عمله،وعن شجون الغربة وهمومها،وكيف أنّ للغربة ثمن يدفع ضريبته أبناء المغتربين الذي لايرافقون أهلهم،أو بالأحرى عندما يكون الأب عاملاً خارج القطر،و تبقى الأمّ وحدها ترعى أبناءها الذين لايطيعونها، ويفتقدون إلى رعاية الأب ووجوده جانبهم..ممّا يؤدّي ذلك إلى فشل الأولاد في دراستهم..كما حدث مع زميل لي عزير على نفسي، يعمل منذ مدة طويلة مدرساً للغة الانكليزية في الإمارات العربيّة المتحدة..واضطر أخيراً إلى أخذ أولاده معه،ليخلّص أمّهم من تعب الإشراف عليهم،ولعلّه يؤمن لهم عملاً يعيشون منه،بعد أن فشلوا في دراستهم..قال صديقي:وطبعاً الأجر لمن يكون مؤهلاً دراسياَ،أكبر بكثير ممّن يشتغل عاملاً عادياً... وأذكر عنما كنت متعاقداً في اليمن، أنهيت عقدي لكي أجلس بجوار ابني وأدرسه الثالث الإعدادي،لأنّ أمه اشتكت من عدم قدرتها على متابعته دراسياً،وإذا لم أنه عقدي في اليمن وأعود،سوف يفشل دراسياً،وهكذا عدت... ودرّسته ونجح في الكفاءة بعلامات أدخلته الصف الأول الثانوي النّظامي.. كان الله في عون المغتربين من أبناء هذا الوطن،وكان الله في عون أسرهم وأبنائهم..فلكلّ غربة ثمنها..!!
وروى لي صديقي المغترب ،والذي رافقني في بعض مراحل دروب مسير اليوم،عن معاناته في غربته..مع ابنيه اللذين وضعهما في مدارس خاصة أقساطها السّنوية مرتفعة جداً،ولأنّ المغترب لايحقّ له وَضع أولاده في مدارس رسميّة حكومية..!!،ولولا تعاون الأب والأم التي تعمل مدرسة أيضاً،لما استطاعا تغطية مصاريف دراسة ولديهما..وتابع صديقي الذي سألته عن نظام التعليم في الإمارات .. وعن مستوى المناهج..!!فأجاب: هناك نظام انكليزي ،تدرّس فيه كلّ المواد باللغة الانجليزية،وفيه مادة لغة عربيّة ذات منهاج سهل ومبسّط،وقد سجّل صديقناابنه في هذا النّظام،وأقساطه أكبر من النّظام الآخر الذي يدرّس باللغة العربيّة الذي سجّل فيه ابنته على ما أعتقد،ومع هذا النّظام تدرّ س اللغة الانجليزية بمستوى جيّد،و أضاف صديقي على دروب المسير:إنّ منهاج اللغة اللغة العربيّة في دولة الإمارات العربيّة المتحدة بسيط قياساً إلى مناهجنا في سوريا،ماعدا منهاج اللغة الانجليزية فمنهاجها أقوى يتعلّمه الطفل منذ المرحلة الابتدائية،كما يحدث عندنا الآن من جديد..ولكن بمستوى أفضل وأقوى..وأنهيت حواري مع صديقي المغترب قائلاً في نفسي: كان الله في عونكم أيّها المغتربون،قلوبنا وعواطفنا معكم وأنتم تكابدون في غربتكم مآسي الغربة،وشدّة وحشتها،التي ذقتها وأنا في اليمن غير السّعيد في هذه الأيّام..!!وكان الله في عون فقراء الوطن فهم غربة دائمة، لأنّ غربة الأوطان أشدّ مرارة وبؤساّ من غربة المهاجر ...!!
وللشاعر العماني (ابن شيخان السّالمي)رأي في الاغتراب لانعلم إن كنتم تجارونه فيه،يقول:
ملازمة الأوطان عجز وذلة == وفي الاغتراب العز والمجد والفخرُ
وليس يُهاب البحر عند سكونه == ولكنه يُخشى إذا اضطرب البحرُ
ضربنا بهذي الأرض نطلب يُسرة == لآمالنا ممن بقبضته اليُسرُ
وأعتقد أنّ الشاعر محقّ كلّ الحق في بيته الأخير كلّ الحقّ..فأثرياء الوطن المتخمون..!! هم سبب في هجرة شباب الوطن.. لأنّهم جائعون..!!
رابعاً:استراحة المسير، والحوار على كأس المتّة..!!
أمّا المحطة الأخيرة في مسيرنا الرّياضي اليوم،كانت وكما في كلّ مسير هي في أخذ فترة استراحة، واحتساء كؤوس المتّة من قبل الأصدقاء،وتبادل الأحاديث والحوارات المختلفة بين بعضهم البعض،وممارسة ألألعاب الرّياضية المختلفة،كلعب كرة السلّة كما حدث اليوم...
***********************************
أصدقاء المسير يمارسون نشاطهم الرّياضي في استراحة مسير اليوم،باللعب في كرة السّلة...
***********************************
لأنّ استراحتنا اليوم تمّت في باحة مدرسة ابتدائية،كان ملعب كرة السّلة فيها جاهزاً،لعب بعض الأصدقاء، ونشطوا أجسامهم ،والبعض الآخر جلسوا يحتسون كؤوس المتة،ويتبادلون الأحاديث،وكان حواري في هذه الاستراحة مع طالبة لي تخرجت هذا العام طبيبة، وهي تحاول التخصّص في طبّ العيون..وكان حواراً معها هادفاَ عن مهنة الطبّ وعن أخطاء الأطباء وعن أمانيها في أن تكون طبيبة ناجحة في حياتها العمليّة، وفي هذا الصدد شرحت لها ظروف الوعكة الصحيّة الأخيرة التي ألمّت بي،وكيف أنّ الطبيب المختص لم يستطع أن يشخص حالتي بالرّغم أنّ شكاتي كانت من ضمن اختصاصه،مّما كلفّني ثمنا باهظاً،وأرهقني ماديا ومعنوياً،وعلّقت الصديقة الطبيبة الشابة التي أتمنّى لها النجاح من كلّ قلبي في عملها المهني الجديد: وبعد أن قلت لها
اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب)عليك أن تتريثي كثيراً قبل أن تشخّصي لمريضك حالته..لأنّ الطبيب إذا أخطأ في تشخيصه، كان خطأه قاتلاً له ،ولمريضه،وربّما خطأ ما..يودي بمستقبله كطبيب ناجح..!!
يقول الشاعر المصري (أحمد محرّم):
وَإِذا الطبيبُ رَمى العَليلَ بِدائِهِ == فَبِمَن يُؤمَّلُ أن يَزولَ الداءُ
علّقت طالبتي على كلامي بالقول:تعلّمت من أساتذتي:أنا لاأشخص الحالة إلا بعد أن أجري كلّ الفحوصات الطبيّة السريرية، والمخبرية، والشعاعية لمريضي..وأعتقد أنّ هذه بداية ناجحة لطبيبة شابة تحبّ مهنتها، ودرست الطبّ عن رغبة وحبّ لهذه المهنة كما ذكرت،وليس لأنّ أهلها يريدون لها أن تكون طبيبة،كما يحدث مع كثير من أبنائنا المتفوقين في هذه الأيام..وفّق الله طبيبتنا الشابة،وحدسي يقول:من المؤكد أنّها ستكون طبيبة ناجحة بعون الله..
وبعد هذه الاستراحة القصيرة، ودعنا دروب المسير وعدنا أدراجنا إلى سلمية، ونحن في أتمّ راحة وانسجام..!!
أصدقائي على هذا المنتدى الثقافي المميّز، أتمنّى أن تكونوا قد اسمتعتم معنا في المراحل المختلفة لهذا المسير،وإلى أن نلقاكم في المسير القادم نتمنّى للجميع أوقاتاً طيّبة وسعيدة..
الكاتب: حيدر حيدر
سلمية في /29/11/2010