الإسماعيلية في القرون الوسطى
إن معظم ما يُعرف الآن عن عقائد الإسماعيلية , و تاريخها , في الأزمنة الوسيطة لم يكن معروفا حتى عقود
قليلة مضت ............
و يعود ذلك بكل بساطة , إلى أن دراستها كانت تتم على أساس ينحصر تقريبا , بالمصادر و
الروايات التي صاغتها أقلام مأجورة مناوئة غير إسماعيلية .. بدءاً بابن رزام الذي اشتهر في النصف الأول
من القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي , مستشهدة بما يؤدي في النهاية إلى إخراج الإسماعيليين من
الإسلام وفق أسس عقائدية محددة .
وواصل العباسيون تشجيع تصنيف مثل تلك الرسائل المعادية للإسماعيليين ,والتي بلغت ذروتها في كتابات
الغزالي ( ت 505- 1111) , الذي وضع كتاباً معادياً للإسماعيليين النزاريين تحديداً .
وفي كتابه المستظهري الذي كتبه في نقض الإسماعيليين بطلب من الخليفة العباسي المستظهر
( 487 - 512 , 1094 - 1118 ) ... قدم الغزالي رؤيته الخاصة , لنظام التلقين الإسماعيلي المتدرج
المعقد.. و التثقيف العقائدي الذي يفضي في النهاية – وفق رأيه - إلى مرحلة من الإلحاد و عدم الإيمان .
وتتالت الروايات المثيرة للسخرية التي تنسب للإسماعيليين , كل أصناف المعتقدات الهرطقية .
وكان يجري تداول هذه الأعمال المزورة على أنها كتابات إسماعيلية أصيلة بقلم مؤلفين اسماعيليين ..
و استخدمت بالتالي كمصادر للمعلومات من قبل الأجيال اللاحقة .
وكانت النتيجة , أن ساهموا إلى حد كبير في صياغة آراء عامة المسلمين, التي لا تعرف عن الإسماعيلية إلا
ما تقرأه عبر هذه السلسلة من التلفيق والتزوير ..
خلاصة القول , أن حملة أدبية مناوئة للإسماعيليين واسعة الانتشار كانت قد ظهرت إلى الوجود في العالم
الإسلامي بحلول القرن الرابع العاشر . . كان هدفها النيل من مجمل الحركة الإسماعيلية منذ بداياتها الأولى .
وتركّزت جهود تلك المصادر المعادية , بشكل ثابت و ملّح - في تلك الفترة - لنسبة كامل الأهداف الخبيثة و
المعتقدات الهرطقية و الممارسات اللاأخلاقية إلى الإسماعيليين , في حين تبنّى العباسيون أنفسهم حملات
نُظّمت بعناية لنقض النسب العلوي للإسماعيلية .
و سرعان ما ظهرت إلى الوجود خرافة سوداء
صورت الإسماعيلية على أنها الإلحاد المطلق في الإسلام , و صارت هذه الخرافة السوداء بمرور الوقت
وبأصولها المنسية , تُقبل على أنها وصف دقيق لدوافع الإسماعيليين و معتقداتهم و ممارساتهم , الأمر الذي
أدى إلى المزيد من الكتابات المناوئة و إلى المساهمة أكثر في مواقف المسلمين الآخرين المعادية
للإسماعيليين .
و قام الأوروبيون من الصليبيين , ومن أزمنة متأخرة , بإضافة حكاياتهم الخيالية إلى ما أنتجه المسلمون من
كتابات معادية و مثيرة للسخرية, وبقي الأوروبيون منذ العصر الوسيط جاهلين تماما تقريبا بالإسلام
و تقسيماته الداخلية , بما فيها الشيعة , على الرغم من صلة الصليبيين ببعض الجماعات الإسلامية في الشرق
الأدنى .
و في الحقيقة , فإن الإسماعيليين النزاريين السوريين , هم أول جماعة شيعية ’ كانت للصليبيين معها
اشتباكات متنوعة , منذ العقود الافتتاحية للقرن السادس الهجري | الثاني عشر الميلادي . في زمن راشد
الدين سنان شيخ الجبل .
و قد تأثر الصليبيون ,على وجه الخصوص , بسلوك التضحية بالنفس بالنسبة للفدائيين النزاريين ’ الذين
كانوا يرسلون في مهمات خطرة لتصفية أعداء جماعتهم البارزين , حتى أصبحت كل عملية اغتيال تتم في
الأراضي الإسلامية , تنسب إلى خناجر الفدائيين النزاريين بشكل خاص .
ومن أشهر من عاداهم لأسباب طائفية , صلاح الدين الأيوبي , الذي خاض ضدهم حربا و حاصرهم في أحد
حصونهم الشهيرة .. مصياف .. وما تزال حنى الآن غرفته موجودة على أسوار المدينة , و تعرف باسم
غرفة صلاح الدين الأيوبي, لكنه لم يستطع اقتحامها و ظلت الحرب بينهم قائمة حتى تم الصلح بتدخل خاله
أمير حماه , ومن ثم توحدت جهودهم ضدّ الصليبيين , حتى أنه أرسل فدائيين بارزين إلى عكا , لاغتيال
قائدها العسكري الصليبي .. كونراد مركيز مونتفرات .. و كانت الروح الفدائية المتفانية للفدائيين
الإسماعيليين ,مصدر دهشة و استغراب للأوروبيين الصليبيين الذين لم يجدوا تفسيرا لها , فقادهم هذا إلى
الوهم و الاختراع فظهرت فكرة الحشيش و الحشاشين , و راحوا يزعمون أنهم يمتلكون معلومات دقيقة حول
الممارسات السرية للإسماعيليين و زعيمهم شيخ الجبل , الذي لا يزال ضريحه موجودا في قمة جبل
المشهد العالي في مدينة مصياف إلى جانب أضرحة أئمة الستر – أخوان الصفاء وخلاّن الوفاء - . و كانت
إحدى هذه التفاسير فيما يتعلق بتجنيد و تدريب الفدائيين هي أنهم يتناولون الحشيش لإزالة الخوف , و توليد
القوة , و الاندفاع للتضحية بالنفس , متناسين أن الحشيش يحبط الإنسان و يفتر من همته ’ بدل من أن
يقوّيها .
و راحت خرافة الحشاشين تتطور تدريجيا حتى بلغت ذروتها مع الرحالة الشهير ماركو بولو( 1324 1254 –)
الذي قام بدمج عدة خرافات ليسهم بصورة بستان الجنة السري , وقد شرح ذلك الرحالة اليندقي الذي
أخذت حكاياته في أوروبا على أنها مصدر موثوق وشهادة من شاهد عيان , شرح بتفصيل وافر كيف كان يتم
تحريض الفدائيين , و دفعهم لتنفيذ مهماتهم , على يدي زعيمهم المحتال الذي كان يدبر ملذات جسدية في
بستان جنته السري , الذي يدخلونه لفترة مؤقتة تحت تأثير الحشيش, فيرون الحور العين و الطعام الوفير
وجميع ما وصف في الجنة من ملذات , ومن ثم تحت تأثير هذه الملذات و الوعود يندفعون لتنفيذ المهمات
المطلوبة منهم .
و نتيجة لكلّ هذه الروايات المختلقة :
انحصرت رؤية الإسماعيليين النزاريين في المصادر الأوروبية في العصر الوسيط , إلى اعتبارها مجرد
طريقة خبيثة من الحشاشين المدمنين , عقدت العزم على القيام بأعمال القتل و الخداع بدم بارد . وطبعا
وجد المؤلفون المسلمون هذا القول فرصة سانحة لتعميق هذه الفكرة وإقصاء الإسماعيلية عن فرق الإسلام .
و زاد الطين بلة سوء فهم باقي المسلمين للإسماعيليين في عدم فهمم ل علم التأويل الباطني .. ونأخذ
مثلا على هذا شعر ابن هانىء الأندلسي , فقد وُصف شعره بالغلوّ و فسرت أشعاره على أنها الكفر بعينه .
يقول ابن هانىء الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي الإمام المعز لدين الله الفاطمي :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
و كأنمــــا أنت النبي محمـــد
و كأنما أنصـارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا بــــه
في كتبها الأحبار و الأخبار
هذا إمام المتقين ومن بــــــه
قد دوخ الطغيان و الكفـــار
هذا الذي ترجى النجاة بحبــه
وبه يحطّ الإصر و الإزار
هذا الذي تجدي شفاعته غدا
حقًّا و تخمد إن تراه النار
إنّ المتعمق في دراسة التاريخ الإسلامي , و فلسفة العقائد الإسماعيلية الباطنية , يعرف أن الإمام المعز لدين
الله الفاطمي , هو الإمام الرابع عشر من نسل الإمام علي بن أبي طالب أي هو سابع الأسبوعين على حد
تعبيرهم , و السابع يتمتع دائما بمرتبة الناطقية , فهو صاحب دور جديد و فتح جديد , و القائم بمرتبة
القائمية و النطق و التشريع و التأويل , كما أنه ممثول العقل الأول للموجودات و الأساس للدعوة ,
فتفسير قوله :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
أي أنك عندما تشاء أمرا فالله هو الذي يشاء , وأنت القدر المتحكم بالخلائق , بل أنت الواحد القهار وفي هذا
مفهوم فلسفي يجيز مثل ذاك البيان , الذي ليس فيه أي خروج عن معتقدات هذا الشاعر الذي عرفناه لا
يخرج عن نطاق وضع الأشياء في موضعها , فعقيدته لها فلسفة خاصة , و تأويل كل ما له صلة بالإلهيات و
ما وراء الطبيعة وما يوافق العقل .
يقول :
إن الباري عز وجل هو مبدع الكائنات , وموجد الأشياء , وعلة العلل , فليس هو أيسا , ولا ليسا , و المعنى لا
نفي ولا إثبات , فالعقل البشري و الفكر الإنساني ليس لهما أن يصلا إلى معرفة وجوده أو عدمه أو تصور
شكله و هيئته و صفاته و ماهيته , ويقف العقل عاجزا عن إدراكه . وأي قول أو زعم من هذا القبيل يكون من
باب الوهم و الافتراض . ويضيف الإسماعيليون على ذلك :
بأن الباري المبدع لا تلحق به الصفات لأنه فوقها , كما لا تقع عليه الأسماء لأنه موجدها , فإن جميع حروف
اللغة من موجداته و مخترعاته , أوجدهما لتكون أسماء لمخلوقاته و مصنوعاته , وإن جميع الاسماء ليست
له إذ لو أنها خاصة به لوجب علينا تحديده و معرفته , وإن الحروف لم تكن قبل وجوده فهي محدثة وهو قديم .
أما الأسماء التسعة و التسعين التي ذكرت في الكتب السماوية , فهي أسماء خاصة بالموجود الأول الذي هو
السابق أو العقل الأول , الذي ظهرت منه جميع الموجودات , وهذا الحد العلوي الكبير يمد من دونه الحدود
الأخرى بالقوة و المادة , وله ممثوله في العوالم الأخرى و خاصة في عالم المثل و عالم الطبيعة .
إذاً كان ابن هانىء إسماعيليا عريقا متفهما أسس عقيدته عندما قال مخاطبا الإمام المعز لدين الله الفاطمي في
البيت الثاني :
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
ففي البيت الأول أعطاه لقب ممثول الموجود الأول أو المبدع الأول صاحب الأسماء الحسنى , وفي البيت
الثاني أعطاه الصفة التأويلية الباطنية , و الظاهرة للإمام السابع و هي رتبة النبوة الناطقة .
إن ابن هانىء لم يكن مغاليا في مدحه للإمام الفاطمي , بل كان فيلسوفا نهل من ينابيع الحكمة و تفيأ ظلها
الوريف ولم يخالف الواقع , فالخالق المبدع ظل في كرسيه دون أن يوصف أو يشبه .
وقد تطورت في القرن الماضي الدراسات عن الإسماعيليين , وتكشفت حقائق كثيرة عن فكرهم و معتقداتهم
وكان ابرز الباحثين الأوروبيين الذي حققوا إنجازا عظيماً في هذا المجال البروفسور فلاديمير إيفانوف
و لا يهم هنا مناقشة معتقداتهم الدينية بقدر ما يهم إيضاح الفكرة المبهمة عن الإسماعيليين التي لا يزال
يحملها المسلمون عن هذه الطائفة الباطنية , التي بات هناك كشف كامل لكل معتقداتهم وأفكارهم .
وكما أسلفت ... فإن معتقداتهم في تطور مستمر طالما هنالك إمام موجود يحق له تغيير ما يريد في الشريعة .
وأحب أن أنوه أيضا أنه هنالك مؤسسات دينية إسماعيلية تخص الطائفة فقط , وهنالك مؤسسات مدنية تهتم
بالبحث و العمارة و التربية و التعليم و الصحة ومن أهم هذه المؤسسات : مؤسسة الاغاخان : وهي مؤسسة
غير طائفية تهتم بالتنمية الاجتماعية , و الاقتصادية , عن طريق الأعمال الخيرية و على الأخص في آسيا و
أفريقيا , تتعاون حالياً مع عدد من الوزرات في سوريا هدفها تقديم الخدمات العامة كما تتعاون مع اليونيسف
و برنامج الأغذية العالمي , مستشفى الاغاخان في كراتشي , جامعة الاغاخان , مؤسسة الاغاخان الثقافية ,
كذلك ترعى مؤسسة الاغاخان للثقافة , برنامج الاغا خان للعمار الاسلامي في جامعة هارفارد و معهد
ماساشوستي للتكنولوجيا , وهنالك أيضا معهد الدراسات الإسماعيلية في لندن , الذي يعنى بتعزيز البحث و
الدراسة في علوم الإسلام , وأيضا صندوق الاغاخان للتنمية الاقتصادية ,وبرنامج دعم المدن التاريخية .
أخيراً كل أملي أن أكون قد وفقت في إجلاء بعض الحجب عن تاريخ هذا المذهب الذي قال عنه أئمتنا – أخوان
الصفاء – أنه يستغرق كل المذاهب .. ناصحين بعدم معاداة أي فرقة أو مذهب
عن موقع مصياف