الاسرار تكمن في ذات الشاعر, فتصبح هواجسا, يعرفها وتعرفه, والمطاردة لا تتوقف إذا واجهها فالمواجهة تحرضها الأقنعة المختلفة.
وللشاعر علي الجندي فرادة تميزه في صياغة هواجسه وأسراره شعرا, فهو يمنح من ذاته اليقظة ومواجده رؤاه ويبذرها في أعماق تربته النفسية, يسقيها العطر الممزوج بفلسفة تأملاته الباحثة دونما جدوى, عن ضفاف حقيقية لأمواج اندياحاته النفسية الرافضة لهزات رأس الاقتناع والمبادهة, ثم يرسلها إلى الآخر على أجنحة سحائبه الشعرية الماجنة لتهطل أمطارا نبيذية على تخوم كروم التجربة البوهيمية الموحشة.
ويطغى الطابع الفلسفي على شعر علي الجندي وتتراءى ملامح تراثية متداخلة بين التاريخ والأسطورة, بين الثابت والمتحول, بين الواقع وما وراء الواقع, فتتكاثف رؤيته وتتعقد ادواته الشعرية كلما توغل في صياغة هواجسه الفكرية ليفتح بوابات الافتراض والتأويل لدى المتلقي دالا بهذا على عمق دراسته الفلسفية ومدى امتلاكه ناصية علم النفس وتمثل كثافة ثقافته الفلسفية لهواجسه بصياغات نصوصه التي يعتمد فيها على مقاربة ذهنية فلسفية مماثلة عند الآخر, فالتأمل والباعث الفلسفي يخلق عنده معايير جدلية لآفاق الوجود, وهذا لا شك يحتاج عزلة تأملية تبدت طقوسها واضحة في نصوص علي الجندي.
وهو يبدأ في تأملاته منذ نقطة الانطلاق أو بصريح العبارة منذ الولادة مازجا إياها بنقطة الرحيل جاعلا طقوس الموت طقوس ولادة, فيصف لنا مشهدية ولوج الحياة ووداعها في شهدية مزدوجة تعني الموت والرحيل والولادة, فيقول في ديوانه (صار رمادا): كنت في ريّانة الأيام لم أبلغ من العمر ولا ألف سنة, عندما جاؤوا قناديل, قناديل, طبولا, وأزيزا, ورصاصا, وجنونا
اختطفوني من ذيولي اللولبية
وأبي ينظر من عليائه الغيمية المحتقنة
عاجزا عن قولة أو ضحكة أو دمعة..
يرسل ضوءا باهتا في الرمل والرهجة.. أمي...
غابت الشمس!
انتحوا بي طرفا أقصى من الغيب
أزلوا عني الماء وعطر الورد واللؤلؤة الأولى
وعرّوني من النوم, أزالوني من الأنثى
لا شك أن الجملة الأخيرة: أزالوني من الأنثى, كانت صرخة علي الجندي عند الولادة, وهي أيضا وصيته الوحيدة أو شكواه الأخيرة عند الموت.. وهذا يفسر لنا بعضا من هاجس المرأة وأبعاده المهيمنة على حياته المضطربة.. وعندما يقرر الجندي جملته تلك يؤكد أن هذا الهاجس يهيمن عليه كرد فعل على واقع فرض عليه الابتعاد عن جذوره الرحمية, ثم يأتي الاعتراض الثاني على واقع آخر مجهول الهوية والتخيل, وهنا يمكننا أن نتذكر عندما قرر (تشارلز لامب) في حديثه عن علاقة الشاعر بالواقع- ويسميه هو الطبيعة- فيقول: إن الشاعر يخلص إخلاصا جميلا لمرشدته السامية (يعني الطبيعة) حتى عندما يبدو أقرب إلى خيانتها, فهل أخلص علي الجندي لملهمته ومرشدته السامية (المرأة) أو كما أسماها هو (الأنثى) كتعبير ذكوري مكمل لرجولته التي لا تكتمل إلا بالأنوثة?
ثم نجد أن الشاعر علي الجندي قد تجاوز قضية الواقعية المكانية ملتفتا بكليته إلى الواقعية الزمنية مشخصا هواجسه القلقة من الزمن والصمت والحلم:
ها أنا أخطو من الصمت إلى اللغو
وأعطي للرياح السود أحلامي
فهو ينفلت من واقعه الساكن إلى واقع آخر متحرك, تاركا التأملات النظرية حرة في قبضة الريح ليعلن قائلا:
أسلمت نفسي للزمان
فهل يقصد علي الجندي بهذا الاستسلام التورط في علاقة أبدية مع أخيلة الفن والإبداع?
يعقب (ترلنج) على هذا بان أخيلة الفن تأتي لتخدم غرض الاتصال بالواقع عن قرب وفي صدق فلا شيء يميز الفنان مثل قدرته على تشكيل عمله وإخضاعه مادته للعقل, وإن تكن مجافية لما نسميه (ناموس الطبيعة) وربما كان من الصعب إنكار ما قد يعانيه الشاعر من مرض أو معاناة تعد عاملا في انتاجه, وله أثره في كل جزء من هذا الانتاج الذي يغدو بمثابة الترجمة الدقيقة لمكنوناته الذاتية, كما نرى هذا جليا في الكثير من أشعار (الجندي) مثل قوله في قصيدة (أين المفر?) من ديوان (سنونوة الضياء الأخير)
.. وإلى أين المفر?
كل مجر الموت قدامك والماضي وراءك
أنت لا تهرب من ماض
ولا من مقبل أسود
بل تهرب من أعماقك المشتعلة
نجد هنا أن مفردات الشاعر علي هي ذاتها بمثابة محاور لمعظم قصائده مثل: الحزن, الموت, الخوف, الغد, الماضي, الهروب..
تلك هي مدارات قلقه وهواجسه, فيكثر ورودها, كالألفاظ ومعان, ومرادفات في شعره الذي يردده في تمتمات طقوسية تؤنس خلوته القصيّة, العابقة بأجواء الأسطورة التي تهيمن على أجواء القصيدة عند علي الجندي كما سنرى في الفقرة التالية:
الاسطورة في شعر علي الجندي
تشكل الأسطورة محورا شعريا أساسيا في نصوص علي الجندي لتقوم تشكيلاتها اللافتة على خارطة قصيدته, وقد حملتها لغة شعرية خاصة إذ استمدت خصوصيتها من تجربة الشاعر الباحث في بطون الكتب التاريخية والتراثية والدينية والفلسفية ناهيك عن تأملاته الذاتية ورؤاه الخصبة.
مما أعطى للقصيدة أبعادا دلالية وفكرية وثقافية خصّها الدارسون والنقاد والمحللون بمطبوعات عززت موضوعة النقد الذي حاول أن يبتكر مفاتيح لفك مغاليق الغموض في قصيدة علي الجندي.
والشاعر علي عاش في بلدة هي بمثابة البوابة الرئيسة للصحراء السورية وآخر حاضرة يعبرها الإنسان ليدخل عوالم الصحراء بأسرارها وطقوسها وخرافاتها, يختزن في ذاكرته كل الخرافات التي كانت ترويها العجائز في (سلمية) ويبدو أنه تأثر بها واكتشف دلالاتها عندما نضجت شاعريته فوظفها في موضوعته الشعرية بعيدا عن (فلسفة الأسطورة) التي تعامل معها (أدونيس) الذي نقل المعنى الأسطوري إلى الموضوعي الواقعي بداعم فلسفي ثقافي محكم, بينما أسطر علي الجندي الخرافة مع إبقائها على براءتها المعنوية التي تحمل دلالاتها الأخلاقية والقيمية, لذا ظهرت آثار الطفولة ولاخرافة في شعره متداخلة مع خياله الشعري الذي هيّأه حلمه من الخلاص والهروب من قلق الموت على أمل تحقق أمل مستحيل في (خلود زمني) ورغبة موؤدة في (خلود معنوي)
و.... أفيق على شرفة دنيا ساكنة
الصمت إله منشور في كل مكان, الحجر أصم, ولا يتحرك في المشهد شيء
والشمس مجمدة صامتة من غير أشعة, والشجر الواقف لا نأمه الأرض, ووجه الأفق وحتى الشمس.
وأوراق الشجر يغلفها لون أربد آجري أجوف
وذهول يحبس أنفاس الأشياء
ويخرس حتى تمتمة الغدران.. أهو الموت? الموت, الشط الآخر?
الشاعر كما يبدو مسكون بهواجس التداخل ما بين الأسطورة والواقع وحقيقة الموت الجامع بينهما, لهذا نراه متوثبا, قلقا, يتناول شراب الموت في كأس الأسطورة مقتنعا بما وضعته الخرافات والأساطير ضمن جدليات الصياغة العقلية الرامية إلى جعل منطلق المسار المستحيل: (الخلود) فنجد (علي الجندي) وقد وظف الاسطورة في قصيدته ضمن جو خرافي من خلال حكاية شعبية مغربية ليصوغها مانحا من خياله الشعري قدرا يكفي لتصوير موضوعة الموت الخرافي المتخيل الذي يستطيع المتلقي كشف أبعاد هذه الموضوعة المتموضعة في اعماق الشاعر من خلالها وإيمانه بتحول اروح إلى شكل يرمز إلى كينونتها السالفة إذ تعبر قصيدة (وردة الرمال)
عن الحركة باتجاه الموت في ذات الشاعر ورمزها الكوني الأني
و.. جاءتني لكي أرسمها, أعشقها, فاتنة
حاملة عبء سني النوم والموت وحزن العريّ في صحارى البلد الموحش
جاءتني.. أعادت النوم للخلف
ردت شعرها نحو سحيق الحبّ.. لا تفتأ تحكي لي أساطير عن الموت
خرافات عن النوم خلال الرمل
اصطاف على أهدابها حينا واشتو لحظة في الليل ما تحت جناحيها الهلاميين
يا ورد الرمال البكر من اين تعلمت البكاء?!
فالموت في هذه الصورة الرومانطيقية عالم خرافي تتوق إليه نفس الشاعر الذي كتب في تقديمه لقصيدة (وردة الرمل) لهذه الوردة قصة شبه أسطورة تقول: إن جماعة من البدو وجدوا في الصحراء الجزائرية وليدة القماط فأتوا بها إلى رئيس القبيلة, فرباها حتى صارت صبية جميلة أحبها ابن عمها وخطبها لكنه يستغرب غيابها وحدها عند نبع الواحة القريب, دفعه فضول المحب- مرة- فتبعها خفية, ولم يعودوا, بحثت القبيلة عنهما فوجدوا ثيابهما فقط حد النبع, ولا أثر آخر سوى وردتين من الرمل
يقول علي الجندي: أتأمل مستقبلي الملوي العنق بثغر الكأس
وإذا تأملنا هذه العبارة مليا, نجد أن الشاعر علي وقد امتلأت أعماقه الذهنية بأصداء الأساطير التي أتقن زراعتها في تربة قصائده يدفعه يأسه إلى التلميح بغية الإغراق والانتحار في الخمرة, تاركا لنا حرية التساؤل: من هو الملوي العنق, أهو المستقبل, أم ذاته القلقة المسكونة بهواجس الرحيل?
فإذا تأملنا الدافع لصياغة القصيدة واستشرفنا الشحنة النفسية التي كانت في ذات الشاعر إبان صياغتها فسنتوصل إلى الصورة التالية: روح قلقة, تكاد تنفجر بهواجسها, شعور مرهف, خيال جامح, رغبة لا تقاوم في الحياة, أمل في مواجهة الموت, ورغبة في صياغة مراسيم استقباله..
حركة نفسية لها دورتها الكاملة تواجه قرارا بالمواجهة
إذن الشاعر علي الجندي لم يكتف بابتكار صور أسطورية في نصوصه الشعرية بل تعامل كغيره من الشعراء المعاصرين الذين تعاملوا مع مفردات من القرآن الكريم, وهي لم تأت عن إيمان عنده, وإنما جاءت عن إرادة في استقاء رموز أسطورية توثق وتؤرشف دعواه ابتغاء الاقتراب من لاذهن الديني والتاريخي عند المتلقي مثال ذلك قوله:
(.. يمضي, يأتي, يأتي, يأخذ, يعطي
رب مقتدر جلال, رب آمنت به, وركعت أبارك صولته
وأقول: أقال: سبحان الموت
وكل الأحوال, الأحوال..
ومن تعب, نراه يقول:
صار جسدي مقبرة, فهنا شاهدة ممسوحة
من زواياها حروف الفاتحة)
خصوصية علي الجندي تكمن في طقسه الوثني وفلسفته للخطيئة, وتجسيم هواجسه الذاتية الذي يعتمد عليها لتشكيل أخيلته المستمدة من فوضى الأحاسيس واتساع مساحة الخيال الذي يوغل بعيدا في اعماق عوالم أسطورية خرافية)
علي الجندي شاعر رمزي سريالي يمارس العبث كطقس دائم لتداعيات خياله اللامحدود.
إنه غير منتم لإيديولوجية أو سلوك أو مذهب إنه أقرب إلى التجرد في تفكيره وسلوكه وشعره الذي نراه أقرب إلى مفهوم الشعر للشعر.
إن استعراض دوواين علي الجندي منذ الديوان الأول وحتى الديوان الأحدث بينها لا يسعه إلا الاعتراف بانه يلج عالما خاصا من عوالمه النفسية , عالما تهيمن عليه شريعة التمرد والرفض من جهة, وتتجاوز فيه التجاذبات الفلسفية في تفكيره الذي لا يهدأ من جهة أخرى.
ويبقى محور الأنا عند علي الجندي الذي كان من تداعياته الإسهام في انعزاليته- مهيمنا على الظاهر من شعره, ليخفي به -ربما- ما نتج من صراعات داخلية انتصر فيها المفكر على التمرد في عمقه لاذاتي لينتج عنها كآبة هادئة وغربة روحية عميقة الغور, وألم صامت لن تعرف أسبابه أبدا...
ربما حاول علي الجندي مرارا الهرب من قلقه وشقائه لكنه لم يستطع لأن السبيل الوحيد لخلاص الذاتي هو الاهتداء إلى انقلاب نفسي يؤدي إلى الاتزان الصحيح والانسجام مع الذات بعد معاناة طويلة مع التناقض..
الحقيقة أن الشاعر علي الجندي أثبت خلال تجربته الشعرية الطويلة أنه شاعر متعفف في أدبه, فجل دواوينه تدل على شاعر مستقل التفكير والتوجه ولديه ميل قوي يغمر النفس بالقناعة الراسخة أن الجدل النفسي أو الفكري الداخلي هو المنحى الطبيعي للتحرر من قيود العقل التي يكبل الإنسان نفسه بها.